حلم بائعة الآيس كريم

بسمة حسن

بسمة حسن

كاتب صحفي

كل صيف تتجدد الأمنية أو يتجدد الحلم، كلما أتيحت لي الفرصة ولو كانت مؤقتة لترك كل شيء وراء ظهري وكأنه لم يكن، المكان والزمان والأشخاص أيضًا، 7 أيام هي كل ما أملك في السنة لممارسة حرية أن أكون كما أريد أن أكون كما تحب روحي أن تكون، لحظة هروب كبيرة من الزحام والضوضاء والصخب والجري والمعافرة والوقت والناس، أن تأخذ هدنة التقاط أنفاس من الصدمة البلهاء التي تنتابنا يوميًّا أمام ما نشاهده من حرب السلطة الدائرة في العالم وأخبار مجازر "داعش" وحرب سوريا وسلامنا الدافئ مع إسرائيل والكل كليلة.

7 عدد الأيام التي أقتنصها من مكان عملي كل عام لقضاء إجازة "الصيف"؛ للسفر خارج القاهرة إلى أي مدينة ساحلية ليس بها سوى الماء والشمس والهواء النقي، وأخص بالذكر مدينة "رأس سدر" بجنوب سيناء، وهي المدينة التي تكررت زيارتنا السنوية لها بشكل متتالٍ في السنوات الأخيرة بعد أن ارتاحت الروح لها، وكأنها وجدت ضالتها المنشودة في هذا المكان، نظرًا لهدوئها الشديد والتي بمجرد أن تطأها قدماك ستشعر وكأنك تولد من جديد، فقط التقط "سيلفي" لنفسك قبل خروجك من القاهرة أو من محل إقامتك وصورة بعد النزوح المؤقت منها وسيصبح في يدك الدليل.

الحديث يتكرر والحلم يتجدد في كل مرة إلا أنه ربما ما يمنع تحقيقه حتى الآن هو أننا ما زلنا لا نمتلك الشجاعة الكافية بعد لترك الجمل بما حمل كما يقولون، فيتجدد العرض بين العام والآخر: "ليه يا بابا مانقعدش هنا علطول، نشتري شاليه ونفضل هنا على طول، بابا يرد متحديًا: هتقدري، أقول له بثقة طفل: أيوه طبعًا أقدر، مستعدة أشتغل أي حاجة بس أقعد هنا، أصحى كل يوم أشم ريحة البحر، وأنعم بالهدوء الذي طالما حرمني منه ضجيج القاهرة وصخبها، يقولها لي وكأنه أيضًا كان حلمًا مؤجلًا لديه: يا ريت كان ينفع".

الأمر لم يتوقف فقط عند 7 أيام هي بالنسبة إلى صحفية تعمل بالقاهرة كل ما تملك للشعور بأنها ما زالت تتنفس، بعيدًا عن إرهاق العمل وضيق الوقت وتكرار الأيام والبيروقراطية والروتين القاتل الذي أصاب المصريين بشكل عام، إذ تتبدى لي في الأفق أحلام أخرى مؤجلة والتي آمل أن أحققها في يوم ما، منها على سبيل المثال إنني أسافر ألف العالم وأتعلم أي نوع من الآلات الموسيقية وأحترف فيها وغيرها من الأحلام البسيطة التي لا نجد لها متسعًا من الوقت، قد تبدو هذه الأشياء للبعض من الوهلة الأولى أمرًا يسيرًا ولكنها ليست كذلك لمن يظل في عمله 8 ساعات كاملة يوميًّا يسبقها ويتلوها ساعات مهدرة في الزحام والمواصلات، لتجد في النهاية أن "الفتات" هو ما تبقى لديك من يومك، تسابق فيها الزمن لتصفية ذهنك والتنعم ببعض الراحة وإيجاد بعض الوقت لنفسك ومع نفسك.

الأمر ليس ضربًا من ضروب الخيال، أو مجرد حلم في المطلق أو فضفضة ليلية داخلية بيني وبين نفسي قبل النوم، وإليك الدليل "نويل هانكوك"، هتقولي مين نويل هانكوك دي؟ أقولك يا سيدي.. دي بقى صحفية برضه - لمحاسن الصدف يعني - بس أمريكية تعالوا نشوف عملت إيه نويل..

منذ عام تقريبًا، وبينما كنت أقوم بمهام عملي التي اعتدت القيام بها كل يوم وقد داهمتني كآبة الروتين وجثمت على أنفاسي، إذ استفقت فجأة على خبر نزل على صدري كما ينزل الثلج على القلب في نهار مشمس شديد الحرارة، انبسطت حرفيًّا وكأنه لامس حلمي المؤجل فبعث في صدري فرحة أمل تحقيقه، ماذا فعلت الصحفية؟، حسبما ذكرت صحيفة "الميرور" البريطانية فإن الصحفية اختارت أن تترك وظيفتها كصحفية بنيويورك التي تجلب لها دخلًا شهريًّا يقدر بـ8 آلاف دولار وتلغي عقد عملها لبيع "الآيس كريم" على أحد شواطئ جزر الكاريبي.

وفي تصريح لها ذكرت نويل السبب، الذي دفعها لفعل ذلك، قائلة "نيويورك مدينة تنافسية، عليك أن تقضي أغلب وقتك في العمل من أجل تحمل العيش هناك"، مضيفة أن محاولة التفاوض والاتفاق على الوقت لمقابلة صديق أصعب من محاولتك الالتحاق بكلية.

ودون تردد وفي قرار شجاع وجريء ذهبت بلا عودة، انطلقت نويل إلى جزر الكاريبي بعد أن أسرتها الطبيعة هناك، فتقول "ما كان يستفزها دائمًا هي الصورة الطبيعية الرائعة للبحر التي كانت تضعها على سطح الكمبيوتر الخاص بها، والتي كلما رأتها حلمت بأن تعيش في مكان مماثل"، مضيفة "كنت أشعر في نيويورك بالضغط النفسي والكآبة ولا يوجد حولي أي مصدر إلهام، وكنت أشعر أنني منفصلة عن البشر".

التجربة ملهمة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، وكم تمنيت أن أكون في نصف شجاعة هذه البنت لأقوم بما قامت به، وأحقق حلم بائعة الآيس كريم.

ولطالما راودني وأرقني سؤال كان يهبط على عقلي كخفاش ضخم قبل أن تغفو عيناي كل ليلة، ماذا لو لم أحقق هذه الأحلام المؤجلة في ظل "ساقية الحياة" التي ندور فيها كل يوم مرارًا وتكرارًا والتي يمكن أن نحقق بعضها فقط إذا ما امتلكنا بعض الوقت، ماذا عن أحلام البسطاء الذين من المؤكد أيضًا أن لهم أحلامًا مماثلة منعهم ضيق ذات اليد وقلة الحيلة وعسر الحال من التفكير أو التصديق أنهم سيحققونها يومًا ما، وكأنها أحلام ستظل حبيسة مسجونة معتقلة.

وهو ما عبرت عنه الأديبة السورية غادة السمان في كتابها "اعتقال لحظة هاربة" والتي طرحت بأحد نصوصه أسئلة تحتاج إلى مَلَكة ما ورائية للإجابة عنها، عندما تساءلت إلى أين:

"إلى أين تذهب الأغاني.. بعد أن نسمعها؟، إلى أين ترحل اللحظات الحلوة.. بعد أن نعيشها؟، إلى أين يذهب لهب الشمعة.. بعد احتراقها؟، أين يذهب البرق بعد انطفائه؟، وعواصف الغابات بعد رحيلها؟، والشهب بعد احتراقها؟".

وأنا أيضًا أتساءل كغادة السمان، أين ستذهب أحلامنا إذا لم نكن من سعداء الحظ الذين ستمد لهم الحياة يديها وتساعدهم على تحقيقها، وهل ما نحتاج إليه هو مواتاة الظروف أم أن الأمر يلزمه ما هو أكبر من ذلك، الإيمان بالحلم وامتلاك الشجاعة الكافية لخوض غمار وغياهب المجهول وكسر حاجز الخوف من المستقبل، والسرعة والإنجاز في الوقت نفسه والحرص على ألا نبقيه فترة كبيرة مؤجلًا مركونًا فيصبح نسيًا منسيا، ولما لا دعونا نكون متفائلين ربما نستطيع فعل ذلك للسبب الذي ذكره الكاتب والفيلسوف البرتغالي فرناندو بيسوا حينما قال: "ربما في يوم، في ما وراء الأيام، تعثر على ما تريد لأنك تريده".