الفنون الشعبية.. تراث محفوظ برقصات من الدلتا إلى الصعيد

كتب: محمد شنح

الفنون الشعبية.. تراث محفوظ برقصات من الدلتا إلى الصعيد

الفنون الشعبية.. تراث محفوظ برقصات من الدلتا إلى الصعيد

لم تكن يوماً مجرد رقصة استعراضية أو فن إيقاعى، وإنما تجسيد لبيئة ومجتمع، وإحياء لتراث تتناساه الأجيال جيلاً بعد جيل، إلا أنهم ما زالوا له حافظون ذاكرون، يزرعون ويحصدون برقصهم مع الفلاح الشقيان المغموسة يده فى طين أرضه، ويصطادون بشباك الصياد الإسكندرانى على شاطئه ومياهه الزرقاء، يفرحون بالدفوف مع النوبيين الطيبين، ويحطّبون بالعصا مع أهالى الصعيد، ويرسمون فى رقصاتهم لوحة فنية تعبيرية، يلتحم معها الجمهور، ويستعيد تراثه، ليحكى لأبنائه وأحفاده عن بلده من مسرح الفنون الشعبية.

{long_qoute_1}

تنقل الفنون الشعبية عادات وتقاليد المصريين بمختلف أطيافهم من جنوب الوادى وحتى دلتا مصر، فهى خزينة أسرار التراث المصرى، التى يعشقها المصريون، ويحبون مشاهدتها وممارستها، لكن رغم ذلك، فهى من أصعب أنواع الفنون، كما يؤكد سيف النصر عماد، الذى أسس فرقته الخاصة قبل 7 أعوام، وتغيرت وجهته تماماً من عشق الموسيقى والرقص الغربى إلى الخوض فى غمار الفن الشعبى.

«عمرى ما تخيلت أن أكون عضواً فى فرقة فنون شعبية، أنا اللى شدنى فى البداية البريك دانس، وكنت باتابع حفلاته، ونفسى أتعلمه»، التغيير فى حياة «سيف» من إيقاعات الموسيقى الغربية السريعة إلى الرقص على الإيقاعات الشرقية المنضبطة، جاء بعد رحلة بحث طويلة عن مكان لتعلم «البريك دانس»، لكنه لم يجد غايته بعد: «دورت كتير، مالقيتش أى مكان بيعلم البريك دانس، فنصحنى أصدقائى بخوض تجربة الرقص الشعبى، هتعلمك المرونة والحركة على الإيقاع، وقالوا لى هتعشقه بعد كده، ماصدقتش فى البداية، لكن قلت أجرب»، لتكون وجهة الشاب العشرينى فرقة الفنون الشعبية بقصر الثقافة.

قضى «سيف» أيامه الأولى وسط الفريق كمتفرج، يشاهد عروضهم، ويحاول أن يلتقط حركاتهم مع الإيقاع، لكن الصدمة كانت مع أول تجربة: «نزلت أجرب رقصة، قعدت أتفرج عليها أسبوع، وكنت فاكر هانزل أكسر الدنيا، ماعرفتش أعمل أى حاجة»، بعدها بدأ المدرب يطمئنه، ويخبره بأن هذا أمر طبيعى، وتفرّغ لتعليمه أسس الرقص مع الإيقاع، بدأها بتحية الفنون الشعبية فى العروض الرسمية، بعدها بدأ فى تعلم الرقصات على يد مدرب الفريق وزملائه القدامى، «الرقصات الأساسية، هى الصعيدية، والفلاحى، والإسكندرانى، والنوبى، كل رقصة لها مزيكتها، وبيتحط عليها خطوات مع الإيقاع، كل كوبليه مجموعة خطوات عددها من 4 إلى 8 خطوات، لو زادت على 4 واقعة، وإن زادت على 8 غلط»، وجد «سيف» الأمر فى بدايته صعباً وشاقاً، ويحتاج إلى تدريب ساعات طويلة، وممارسة حتى يصل إلى مرحلة الاحتراف.

مضت مرحلة التدريب وبدأ الشاب العشرينى يشارك فى عروض الفرقة فى المناسبات الرسمية من أعياد قومية واجتماعية: «كنت باشارك فى العروض، وبقيت صف تانى، ودى مرحلة متقدمة، الفرقة فى العروض أربعة صفوف، الصف الأخير للمبتدئين والأول للمحترفين، الصف الأول بتبقى ناس روحها ودماغها وحياتها فى المزيكا، ولو الصف الأول وقع، الرقصة بتبوظ، وعنده خبرة فى الأداء، وعنده سرعة بديعة لتلافى الأخطاء، ولو نسى خطوة فى الرقصة، يعرف يحط خطوة جديدة، والفرقة كلها بتتبعه».

10 أشهر كاملة قضاها «سيف» مع فرقة الفنون الشعبية بقصر الثقافة، أنسته حبه للرقص الغربى، وبدأ يقرأ فى التراث الشعبى، ويسافر لمشاهدة العروض بمهرجانات الفنون الشعبية فى مختلف المحافظات، وحفلات وعروض فرقة «رضا» للفنون الشعبية: «طبعاً، دول أساتذتنا، كنت باروح أشوف عروضهم وأتعلم، وأنبهر بالناس اللى جاية من مختلف أنحاء العالم، علشان تتفرج على عروضهم وتصورها، متعة ما بعدها متعة».

وصل الشاب العشرينى إلى مرحلة التوحُّد مع الفنون الشعبية، التى أنسته دراسته للتربية الرياضية، وجعلته يفكر فى دراسة الموسيقى، لكنه اكتفى بما تعلمه فى فرقة الفنون الشعبية بقصر الثقافة، وقرر أن ينشئ فرقته الخاصة: «عملت فرقة الـ(4M)، طبعاً أصحابى قالوا عليا فى الأول مجنون، بس مابصتش لكلام لا بيقدم ولا بيؤخر، وبدأت فى عمل الفرقة، واعتمدت فيها على زميلى فى فرقة قصر الثقافة، وفى فرق الفنون الشعبية التانية، وبدأنا فى عمل الفرقة».

6 أشهر من العمل على أخذ التصاريح اللازمة، والتدريب والبروفات الشاقة حتى تخرج فرقة «سيف» إلى النور: «بدأنا فى تصميم رقصات خاصة بينا، لكن الأساس، واللى لاقيناه بيشد الناس أكتر، هو الرقصات الصعيدى والنوبى والإسكندرانى، وعملنا برامج بعروضنا، وصممنا زى خاص بالعروض بتاعتنا، وبرنامجنا بيتغير كل موسم»، وانطلقت عروض الفرقة فى الأفراح بالمناطق الشعبية والريفية، التى يراها الأكثر تفاعلاً مع عروض الفنون الشعبية، ورغم سطوة الـ«دى جى»، إلا أنه كانت لهم فقراتهم الثابتة فى تلك الأفراح، وحتى ذاع صيتهم أكثر داخل وخارج حدود محافظتهم، بعدما دشّنوا صفحتهم على موقع التواصل الاجتماعى، وبدأت العروض تأتى إليهم من المحافظات المجاورة، ولم يعد الأمر يقتصر على الأفراح، بل حضروا بعروضهم فى المناسبات الاجتماعية، كـاحتفالات يوم اليتيم وعيد الأم.

لم تعد الفنون الشعبية بالنسبة لـ«سيف النصر عماد» مجرد أمر عابر فى حياته، بل أصبحت كل حياته، تفرّغ لها تفرّغاً تاماً، وتوحّد مع عروضها: «أنا بقيت أتوحد مع الشخصية، لدرجة، أن لما ألبس الجلابية الصعيدى، وأمسك العصاية وأرقص وأحطب بيها، أحس إنى صعيدى فعلاً، صعيدى بروحى وبعقلى، بقيت أتقمص الشخصية فى العرض، وماخرجش منها إلا مع نهاية المقطوعة الموسيقية».

عروض فرقة «4M» تستمر طوال العام، وإن كان الطلب يزداد عليها فى موسم الصيف والأعياد، خصوصاً فى المدن السياحية، لكن شهر رمضان بالنسبة لهم هو موعد الراحة، والإعداد لموسم جديد بمجموعة من البروفات على رقصات جديدة، يعدونها معاً: «بروفاتنا بتكون طول شهر رمضان، وبنعمل كمان بروفات فى أوقات متفرقة من السنة، خصوصاً لما بينضم لينا ناس جديدة، وفى دخلة كل موسم بنحط برنامج جديد، علشان مانكررش نفسنا»، لكن رغم حالة الحب الشديد للفنون الشعبية فإن الواحد منهم لا يخلو من المضايقات فى بعض الأوقات أثناء البروفات والعروض، «مينفعش نعمل بروفاتنا مثلاً فى مكان مفتوح، علشان بنتعرّض لمضايقات كتير، بنؤجر صالة فى مركز شباب مثلاً، وندرب فيها، منعاً للمشاكل، وعلشان كمان نحافظ على تركيزنا أثناء شغلنا».

تصطدم فرقة «سيف» أحياناً ببعض من المتشددين، يرون فى ما يفعلونه حراماً، أو من يفسرون كل شىء على هواهم: «فى بعض الأوقات، يطلب صاحب الفرح منى، إنه مش عايز بنات فى العرض، وساعات كتير بارفض الكلام ده، لأننا مش بنعمل حاجة حرام، لكن الأغلبية العظمى من الناس بتحبنا، وعروضنا من قلب الفلكلور الشعبى المصرى، وبتمثل جميع فئات المجتمع وطبقاته».


مواضيع متعلقة