«أدب الخيول».. فن شعبى من أحضان السيرة الهلالية على أنغام الطبل والمزمار

كتب: محمد شنح

«أدب الخيول».. فن شعبى من أحضان السيرة الهلالية على أنغام الطبل والمزمار

«أدب الخيول».. فن شعبى من أحضان السيرة الهلالية على أنغام الطبل والمزمار

الأنوار تزين واجهات البيوت، وتتوسط الشارع معلنة بشرى سارة، الأرض تفترشها الرمال، والمقاعد الخشبية متراصة إلى جوار بعضها البعض، الشمس تقترب من الغروب، والليل بدأ يسدل ستائره، ومع دخوله يصل أصحاب الطبل والمزمار، يعدون العدة لليلة الزفاف، يخيم الظلام التام، وتفتح الأنوار وتستقبل المعازيم والمهنئين أصوات الزغاريد، يجلسون فى انتظار ضيوف دائمة فى أفراحهم، سروا بسماع صهيلها المقبل من بعيد، يعلن قدوم الخير، المعقود بنواصيها، جاءوا وعلى ظهورهم فوارس، تستقبلهم المزامير بالتحية، ويردها الخيل برقصة عربية أصيلة، جعلت كل من حولها تبتهج أساريره.

{long_qoute_1}

قبل عشرة أعوام، تربى «محمود» الشاب العشرينى فى مزرعة أبيه وسط الخيل، يستيقظ على صهيلها صباحاً، ويستأنس بمجلسها نهاراً وليلاً، فهى خير جليس ورفيق، فالحب والوفاء مغروس فى قلوبها منذ المولد، وعالمها لا يختلف كثيراً عن عالم الإنسان، فيملكون الشخصية المستقلة، فمنهم تجد الوفى والهادئ والشرس والمحب للحركة المستمرة، يتطبع دائماً بطباع صاحبه ويتعايش معه فى مودة وحب دائم، «الخيل دنيا تانية، عمرك ما تزهق منه، خصوصاً لو عاملته كأنه ابنك، هتلاقى منه حنان وحب ماتلاقيهوش فى أى مكان».

الألفة التى تولدت بين الفرس ومحمود بمرور السنين، ورعايته صباحاً ومساء، جعلته خبيراً فى تربية الخيل، التى تعلم أصولها على يد والده، «فترة حمل أنثى الخيل تصل إلى 11 شهراً، أحياناً بتولد بعد 10 أشهر و20 يوم، ولازم تتعامل معاملة طيبة طول مرحلة الحمل، ومانضغطش عليها فى أعمال شاقة، أو نحمّلها فوق طاقتها»، يتحدث «محمود» حديث طبيب ماهر يعامل البشر، وليس حديث فلاح بسيط يربى الخيل فى مزرعة، «فترة رضاعة الحصان 4 شهور، وبعدها يتفطم، وبيبقى كدة مهر صغير».

تحتاج تربية الخيول إلى الصبر الشديد، مثلما تحتاج إلى الرعاية والحنان، فعمرها يتراوح بين 27 و30 عاماً، ولكن تصنيف الخيل فى المزرعة حسب الاحتياج يبدأ فى عمر الثلاثة أعوام، «نبدأ نصنف الخيل، فى حصان ينفع فى أعمال الزراعة، وجر العربات الكرو، وحصان ينفع فى السباقات، وفى نوع آخر بعلمه الرقص العربى الأصيل».

قرأ «محمود» عن الخيول كثيراً، وسمع قصصاً وحكايات أكثر، «عمره من عمر الحضارة الفرعونية القديمة، استخدمه أجدادنا الفراعنة فى عمليات التشييد والبناء للأهرامات والمعابد، واستخدمه العرب والمسلمون فى الفتوحات الإسلامية فى المشرق والمغرب»، كما أن قصص التراث الشعبى مليئة بمغامرات الفرسان، كما تغنى وتغزل فيه العاشقون، ولكنه كما قرأ وسمع عنها الحكايات التاريخية والروايات والقصص الأدبية، قرر أن يتخصص أكثر ويقرأ فى أنواعها وأنسابها.

«الخيل زى ما ليه قصص وحكايات كتير ليه أنواع وأنساب كتير»، يقولها «محمود»، الذى تعلم من والده «عم مختار» التفريق جيداً بين أنواع الخيول وأنسابها حتى لا يقع فريسة فى يد المتلاعبين والمحتالين، «فيه الخيل العربى الأصيل، ونعرفه من شهادة نسبه لأمه وأبوه، والختم الموشوم على رقبته، وفيه خيل بيكون من أب عربى أصيل ولكن أمه غير مختومة (مهجن)، وفيه خيول أجنبية زى الخيل الشركسى، وفيه الخيل البلدى وبيكون أقرب فى طباعه من العربى، خصوصا لو من أب عربى أصيل.

طباع الخيل وشخصيتها، هو درس آخر يتعلمه مربى الخيول، كما يؤكد «محمود» فى حديثه، «الحصان طابعه من طبع بنى آدم، فيه الهادى وفيه النشيط طول الوقت، الطيب والشقى، المؤدب والصعب فى التعامل، وطباع الخيل تورث بالجينات، فالحصان المؤدب والقوى يورث أخلاقه لأولاده، والحصان الصعب فى معاملته قليل أوى لما يكون ابنه مؤدب»، مشيراً إلى أن الخيل أيضاً يتطبع بطباع صاحبه ومربيه، ويشعر دائماً بمعاملته الطيبة أو السيئة له.

يعاود «محمود» الحديث، متطرقاً إلى حكايته مع رقص الخيول، الذى بدأه منذ أن كان صبياً فى الـ15 من عمره، وحتى سار خيالاً ذاع صيته، ويطلب بالاسم فى الأفراح الشعبية فى دلتا مصر، «علشان تروض الخيل، وترقص بيه، لازم تعرف أسس تربيته، وتكتسب خبرة كبيرة فى التعامل معاه»، يتحدث وكأنه كتب عقد حب بينه وبين خيله، ملتزم بوصية الأب والجد، عنوانها الحب.

«أدب الخيل» هو الاسم المتعارف عليه بين مربى الخيول ومدربيها على الرقص، وهى مرحلة متقدمة جداً، تحتاج إلى أنواع راقية من الخيول، يتم إعدادها للرقص بحرفية عالية، «بعد ما الحصان يوصل سن 3 سنوات يوضع له لجام فى فمه، ليتعود عليه، وبنغير له أكثر من لجام، لحد ما نلاقى لجام يرتاح فيه، ويفضل معاه طول عمره ومايتغيرش أبداً»، بعدها تبدأ مرحلة جديدة، وهى السير مع الخيل لمسافات طويلة، حتى تقوى عضلاته، ويصير نَفَسه أطول، ويستطيع تحمل راكبه، ومجهود الرقص الشاق، بعدها يتم إكسابه المرونة، وتعليمه الدوران يميناً ويساراً. حركات الرقص، هى آخر المراحل، التى يتعلمها الخيل، بعد أن يتم إعداده إعداد بطل رياضى لمنافسة أو بطولة، «نبدأ بتعليمه الدبدبة فى الأرض، بتحريك ساقه لأعلى وإلى أسفل، ولازم إذا أحسن أداء الحركة نعطف عليه بقطعة سكر، ونطبطب على رقبته علشان يحس إنه أدى كويس، وكل يوم يتعلم حركة جديدة»، يحتاج الخيل من شهر إلى شهرين لإتقان الرقص، ويصبح جاهزاً للأداء، ويرقص وحده وسط المزرعة مبتهجاً بما تعلمه.

مجهود شاق يبذله «محمود» حتى يعد خيله للرقص، يتناساه تماماً عندما يرى الفرحة والبسمة على وجوه الجمهور، فأينما يحل الخيل الراقص، يتفاعل ويتواصل معه الجميع، الكبار يصفقون ويهيمون معه، والصغار يرقصون ويتمايلون على حركاته، والنساء يزغردون.


مواضيع متعلقة