الجريمة والعقاب
ها نحن قد وصلنا إلى مرحلة «بداية النهاية» وأقصد نهاية الفترة الانتقالية (والبعض قد يقول: «بل نهاية الثورة»). فالانتخابات البرلمانية تمت، وانتخابات رئيس الجمهورية تمت جولتها الأولى ولم يبق إلا الإعادة، وها هى الأحكام التى طال انتظار صدورها ضد الرئيس المخلوع وولديه ووزير داخليته، تصدر بالفعل، ولم يبق إذن إلا أن نعرف من هو رئيس الجمهورية المقبل، وأن يتسلم منصبه بالفعل (وقد يضيف البعض: «وينتهى وضع الدستور الجديد»).
لابد أن أعترف للقارئ، مع ذلك، بأن حماسى لمعرفة نهاية القصة، أو نهايات القصص الكثيرة الصغيرة التى تضمنتها الرواية الكبيرة، قد فتر منذ زمن ليس بالقصير، كما يفتر حماس القارئ لرواية لا تتسق أحداثها بعضها مع البعض الآخر، وتصرفات أبطالها لا تتسق مع شخصياتهم، وما يحتويه الفصل الثانى أو الثالث منها لا يبدو نتيجة طبيعية لما جاء فى الفصل الأول.. إلخ. إن الرواية، لكى تحتفظ بتشويقها للقارئ، يجب ألا تحتوى على أكثر من اللازم من الأحداث الغريبة غير المتوقعة، ووصف أى رواية بأنها «رواية واقعية ولكنها أغرب من الخيال» ينطوى فى الغالب على أسباب فشلها وانصراف القارئ عنها.
وأنا يخامرنى الشك فى أن ما حدث منذ قيام ثورة 25 يناير 2012، ينطوى على أحداث كثيرة من هذا النوع، أى من النوع غير المتوقع «والأغرب من الخيال»، وإلى هذا أعزو انخفاض درجة حماسى لمتابعتها، رغم تعلق أحداثها بأشياء وثيقة الصلة بمستقبل هذا الوطن.
أما الأحداث «الغريبة وغير المتوقعة»، فالقارئ يعرف الكثير منها ولا داعى لسردها الواحد بعد الآخر، وأكتفى الآن بالتعليق على آخرها، وهو الأحكام الصادرة يوم السبت الماضى «2/6»، بالسجن المؤبد على الرئيس المخلوع ووزير داخليته، وبإسقاط الدعوى ضد نجلى هذا الرئيس المخلوع، علاء وجمال مبارك لتعلقها بأحداث مضى عليها أكثر من عشر سنوات، أى سقوط الدعوى بالتقادم.
وهنا لابد أن أعترف للقارئ أيضاً بأنى عندما قارنت موقفى من هذه الأحكام، وموقف معظم المحيطين بى، من أهلى ومعارفى، مع اختلاف درجة ثقافتهم والطبقة الاجتماعية التى ينتمون إليها، وجدت نفسى أقل لهفة على معرفة الأحكام قبل صدورها، وأقل تأثراً بعد معرفتى بها، سواء بالسرور أو الأسف، وكذلك وجدت نفسى أقل حرصاً على معرفة ما قُدم لها من مبررات وحيثيات. وعندما سألت نفسى عن السبب، وصلت إلى النتيجة التى بدأت بها هذا المقال: رواية سخيفة مليئة بالغرائب والعجائب غير المنطقية وغير المفهومة، وقد جاءت هذه الأحكام لتضيف جديداً لهذه الغرائب والعجاب. وهذه الغرائب تتعلق، هذه المرة، بتحديد شخصية المجرم، وتحديد الجريمة، وتحديد العقاب الملائم للجريمة.
لقد بدأ شعورى بعدم الارتياح منذ الأيام الأولى التالية لسقوط الرئيس السابق، والإعلان عن تقديمه هو وولديه للمحاكمة. نعم، إنى لا أحمل مشاعر ودية على الإطلاق لا إزاء الرئيس ولا إزاء ولديه، وأشترك فى ذلك مع الغالبية العظمى من المصريين، ولأسباب تتعلق بما فعلوه وما لم يفعلوه، وترتب عليه هذا التدهور الشديد الذى عرفناه، طوال ثلاثين عاماً، فى أحوال الوطن، ولكنى من ناحية أخرى كنت أنظر إلى الرجال الثلاثة نظرة فيها من الرثاء أكثر مما فيها من الكراهية.
الرئيس المخلوع جاء إلى الحكم خلسة وصدفة دون أى تخطيط من جانبه، بل وحتى دون رغبة حقيقية فى المنصب (أو على الأقل دون لهفة أو شغف شديد). كان هذا واضحاً ليس فقط من تعبيرات صدرت عنه خلال الشهور الأولى لتوليه منصب الرئيس، ودلت على ما يشبه التأفف من المنصب، بل ويتضح أيضاً من أى معرفة بسيطة بنوع شخصيته وميوله وتاريخه، وكذلك درجة ذكائه أو استعداده للمغامرة. إن رجلاً كهذا ليس من النوع الذى يسعى إلى الرئاسة، فإذا جاءت إليه بالصدفة المحضة (كما حدث بالفعل فى هذه الحالة) لابد أن يسره ما تقترن به من أسباب السرور والزهو، ولكنه لا يستميت فى المحافظة عليها استماتة غيره، كما أنه (وهذا هو الأهم) لا يكون مستعداً لارتكاب الجرائم بسهولة من أجل الاحتفاظ بها. الراجح (بل ومن الطبيعى أيضاً) أن يقوم رئيس من هذا النوع، وفى ظروف كالظروف التى كانت سائدة فى عهده، بارتكاب مجموعة لا يستهان بها من الجرائم التى يعاقب عليها القانون، مما يسهل استمرار احتفاظه بالمنصب، ولكن الأرجح، بل من شبه المؤكد فى رأيى، على ضوء المعروف عن شخصية هذا الرئيس، أن المفكر والمخطط والمنفذين الرئيسيين لهذه الجرائم، أشخاص غير هذا الرئيس، إنه مسئول بالطبع عن هذه الجرائم قانونياً وأخلاقياً، على الأقل لسماحه بحدوثها، ولكنى شعرت دائماً بأنه ليس هو المسئول الأول للأسباب التى ذكرتها حالاً.
إن ما ذكرته الآن عن الرئيس المخلوع ينطبق بدرجات مختلفة على الابنين وبقية أفراد الأسرة، إنهم جميعاً مستفيدون مما ارتكب من الجرائم (أيضاً بدرجات متفاوتة) ولكن خطيئتهم الأولى ليست التفكير أو التخطيط أو التنفيذ، بل هى خطيئة سلبية فى المقام الأول، وهى عدم اتخاذ أى إجراء أو مسلك يضع حدا لهذه الجرائم، بل استمراؤها والاستمتاع بثمراتها، رغم امتلاكهم السلطة والحق فى وقفها.
إن المجرمين كما نعرف أشكال وألوان، ودرجة المسئولية الجنائية والأخلاقية لا بد أن تختلف مع اختلاف هذه الأشكال والألوان، لو كان المشرّع والقاضى فى وضع يسمح لهما بمعرفة كل الملابسات، ولو كان القانون يتسع لمواجهة كل هذه الدرجات من اختلاف المسئولية. ولكن لا المشرع ولا القاضى يعرفان كل شىء وكافة الملابسات، ولا القانون يتسع عادة لمثل هذا التمييز الدقيق بين الحالات المختلفة. لا بد إذن أن تصدر أحكام أقل ما يمكن أن توصف به أنها لا تشفى الغليل، فتبدو أقسى من اللازم أحياناً أو أخف من اللازم. ولكن الأمر فى حالتنا هذه أكثر تعقيداً بكثير.
فهناك أيضاً الجمهور الواقف متربصاً ينتظر صدور الأحكام. ذلك أن القضية ليست عادية بل سياسية، وتترتب عليها نتائج كثيرة ومهمة تتعلق بأمور السياسة والحكم، مما يصعب أن يغيب عن ذهن القاضى، بل وحتى ذهن النائب العام الذى يقدم المتهمين للمحاكمة.
فى هذه الظروف نجد للأسف أن تحديد المجرم الذى يقدم للمحاكمة لا يراعى فيه العدل التام، إذ قد يقدم أشخاص للمحاكمة أقل جرماً بكثير من آخرين أشد إجراماً، وتحديد الجريمة أيضاً لا يراعى فيه العدل التام، إذ قد يُغض البصر عن أهم الجرائم التى ارتُكبت ويختار أهونها ليكون موضوع الاتهام والمحاكمة، ومن ثم تأتى العقوبة بدورها أقل عدالة بكثير مما يجب. إذ ما الذى نتوقعه إذا أخطأنا فى تحديد المجرم، وأخطأنا فى تحديد الجريمة؟ لا بد أيضاً من أن نخطئ فى تحديد العقوبة. وإذا كان الأمر كذلك فكيف يتحمس المرء لمتابعة الأمر كله؟ القصة من أولها تشوبها أخطاء مقصودة أو غير مقصودة، فلا بد أن تنتهى إلى نتائج سيئة، بعضها غير مقصود ولكن أهمها مقصود.
لكل هذا كان حماسى للمحاكمة، ولكل ما تعلق بالجريمة والعقاب، فاترا منذ أن أُعلن عنها فى الأيام الأولى للثورة، وحتى صدور الأحكام منذ يومين.