دور الإعلام فى الحفاظ على اللغة العربية

كانت الصحف فى الماضى نموذجاً يُحتذى فى دقة المفردات اللغوية وسلاسة العبارات وجزالتها، وبساطة الأسلوب وروعته، إلى الحد الذى يمكن معه اعتبار بعض المقالات بمثابة قطعة أدبية من الطراز الراقى. بل إن الصحف القومية كانت تحرص على استقطاب كبار الأدباء والشعراء، ليكونوا ضمن كوكبة كتابها. ويكفى أن نشير هنا إلى بعض الأمثلة من كتاب صحيفة «الأهرام»، مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وأحمد عبدالمعطى حجازى. ولا تزال تجربة الشاعر الكبير فاروق جويدة وهوامشه الحرة التى يطل علينا بها على صفحات «الأهرام»، كل يوم جمعة، مثالاً حياً على هذا التقليد الجميل.

كذلك، كانت نشرات الأخبار على شاشات التليفزيون وعبر أثير الإذاعة درساً حياً من دروس اللغة العربية، تطرب آذاننا فيه إلى سماع مفردات اللغة الوطنية فى أسلوب مشوق يتسم بسلاسة النطق وسهولة التعبير عن الفكرة والحرص على الفصل المنطقى بين العبارات. وكان مذيعو النشرات يحرصون على قراءة النشرة أكثر من مرة قبل ظهورهم على الشاشة أو قبل قراءة النشرة عبر الأثير، فلا يرتكب قارئ النشرة أى خطأ فى نطق الكلمات، وليس كما يحدث الآن عندما يُخطئ المذيع فى نطق بعض الألفاظ، إلى الحد الذى يبعث على الاعتقاد بأنه يقرأها لأول مرة أثناء ظهوره على الشاشة. وعندما يفطن هؤلاء إلى خطئهم، نجدهم يستخدمون اللفظ «بل»، ثم يعودون إلى قراءة الكلمة مرة أخرى، وكأن شيئاً لم يحدث. لقد أجاد المذيعون القدامى، فاستحقوا أن تُحفر أسماؤهم بحروف من ذهب فى ذاكرتنا. وهكذا، ما زلنا نتذكر حتى الآن نجوماً لامعة، مثل أحمد سعيد وأحمد سمير ومحمود سلطان وحلمى البلك.

وكان المطربون والمطربات يتفنّنون فى اختيار أروع القصائد الشعرية، ولا يقبلون العمل سوى مع أكبر الشعراء. وهكذا، تغنّت كوكب الشرق أم كلثوم بقصائد كبار الشعراء، مثل أحمد شوقى وأحمد رامى وإبراهيم ناجى والأمير عبدالله الفيصل. ولا يسعنى هنا إلا أن أذكر واقعة طريفة حدثت أثناء مناقشة إحدى رسائل الدكتوراه بكلية الحقوق فى جامعة القاهرة. وتتلخص الواقعة فى أن الباحث استخدم لفظ «الفكر» (بكسر الفاء وفتح الكاف). وهذه الكلمة عربية صحيحة، لكن ظن أحد أعضاء لجنة المناقشة أن الأمر يتعلق بخطأ مطبعى، فتساءل عما إذا كان الباحث يقصد لفظ «الأفكار». وهنا تدخّل أستاذنا الجليل المغفور له بإذن الله الدكتور مأمون سلامة، أستاذ القانون الجنائى بجامعة القاهرة ورئيس جامعة القاهرة الأسبق، مؤكداً أن كلمة «الفكر» عربية صحيحة، وأشار إلى أحد الأبيات التى تغنّت بها السيدة أم كلثوم، موجهاً حديثه إلى زميله فى لجنة المناقشة: ألم تسمع أم كلثوم وهى تغنى: «هذه الدنيا كتاب أنت فيه الفكر».

أما فى عصرنا الحالى، حدث ولا حرج. فكثيرة هى الأخطاء اللغوية التى نصادفها فى وسائل الإعلام، تستوى فى ذلك الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة. والغريب أن الأخطاء اللغوية تحدث فى وقتنا الحاضر ممن يُفترض فيهم الدقة فى استخدام الألفاظ، ويتوقع منهم عدم الوقوع فى الأخطاء. فلقد راعنى مؤخراً وأنا أتصفّح صحيفة «الأهرام» أن أجد مقالاً لأحد الحاصلين على درجة الدكتوراه، يتضمّن خطأً لغوياً فادحاً فى عنوانه، الذى جاء على النحو التالى: «دعوة لاستبدال الدقهلية بالمنصورة» (صحيفة الأهرام، القاهرة، 9 فبراير 2010م، صفحة قضايا وآراء). فكما تعلمنا فى دروس اللغة العربية أن الباء تدخل على المتروك، وليس كما هو شائع لدى الكثيرين فى الوقت الحاضر. والدليل على ذلك قوله تعالى «أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ» (سورة البقرة: الآية 61). فقد دخلت الباء هنا على المتروك. ومن ثم، فإن الفكرة التى يود كاتب المقال التعبير عنها، ينبغى أن تُصاغ على النحو التالى: «دعوة لاستبدال المنصورة بالدقهلية»، وليس على النحو الذى ورد فى عنوان المقال آنف الذكر. وأنا هنا لا أجزم بنسبة الخطأ إلى صاحب المقال. فربما وقع الخطأ من أحد المدققين اللغويين بالصحيفة عند أداء مهمته فى التدقيق، بحيث ارتكب هو نفسه خطأً بدلاً من أن يقوم بتصويب الأخطاء.

ومن أمثلة الأخطاء اللغوية الشائعة فى وسائل الإعلام، نذكر كذلك لفظ «غير» عندما يكون مضافاً إلى كلمة أخرى. إذ يتم عادة تعريفه، بحيث يقال على سبيل المثال «الغير حكومية» أو «الغير قابلة للتفاوض». والواقع أن صحة هذه العبارات هو «غير الحكومية» و«غير القابلة للتفاوض». والدليل على صحة ما نقول مستفاد من القرآن الكريم الذى وصفه الله عز وجل بقوله «بلسان عربى مبين». فالآية القرآنية من سورة الفاتحة تقول «غير المغضوب عليهم».

وفى الختام، لا يسعنا إلا أن نتوجّه بالتحية إلى صحيفة الوطن الغراء على قيامها بنشر مقال يومى لبعض عظماء الصحافة من عصور سابقة، تحت عنوان «مقالات من زمن فات»، لعل الأجيال الجديدة تتعلم منها.