«أمل دنقل»: اسمى «لا تصالح».. فارفعوا الأسلحة واتبعونى

كان يُدعى «محمد أمل فهيم محارب دنقل».

كان شاعراً كبيراً، وسيظل. كان أكبر من الشعر والوجود والموت، وسيظل. وُلد فى صعيد مصر، فى قرية «القلعة»، فى مدينة قفط بقنا عام 1940، وعاش بوهيمياً، فقيراً، معذباً، قلقاً، كارهاً، متشائماً، متعالياً، واستأذن فى الثامنة من صباح السبت 21 مايو 1983، لكنه ذهب يصفى حساباً قديماً.. . وسيعود.

من كل الأسئلة التى تركها «أمل دنقل».. أحتفظ لنفسى بإجابة واحدة:

«لا تصالح».

ومن كل الإجابات التى تمخض عنها غيابه «المؤقت».. أحتفظ بسؤال واحد:

«يأتى المعزون متشحين بشارات لون الحداد

هل لأن السواد هو لون النجاة من الموت

لون التميمة ضد الزمن؟».

■■■

كان حواريوه يشعرون أن الذى يرقد فى «الغرفة رقم 8» فى معهد الأورام «يهوذا» وليس «أمل»: «صُعقت وأنا أشاهد جسده عندما غسّلناه بعد وفاته. كان متحللاً. كيف عاش تحت هذا الجسد إذا لم يكن ثمة معجزة؟».. هذا عبدالرحمن الأبنودى، رفيق عمره وامتداد فصحاه. وهذا أحمد عبدالمعطى حجازى: «كان السرطان يأخذ من جسده الناحل فتزداد روحه تألقاً وجبروتاً، حتى كان باستطاعة زواره أن يروا صراعه مع الموت رأى العين. صراع بين متكافئين: الموت والشعر. وفى اللحظة التى وقع فيها الجسد بكامله بين مخالب الوحش.. خرج أمل من الصراع منتصراً. لقد أصبح صوتاً محضاً، صوتاً عظيماً سيتردد أصفى وأنقى من أى وقت مضى».

كتب أمل دنقل «زرقاء اليمامة» قبل هزيمة 1967. وكتب «لا تصالح» قبل زيارة السادات المشؤومة إلى القدس بنحو عام. وهاجمه السرطان لأول مرة فى سبتمبر 1979، أى قبل توقيع «كامب ديفيد» بحوالى شهرين: «كان السرطان بلا أسباب ولكل الأسباب. كان قدراً لشاعر مغامر ورافض وفى حالة صدام دائم مع العالم، لذا كان لا بد لأمل أن ينفجر».. تلك شهادة عبلة الروينى، زوجته، وما أدراك ما معنى أن تتزوج امرأةٌ من رجلٍ أدركته حرفة الشعر!:

- قاوِم يا أمل..

فكان يرد:

- لا أملك إلا أن أقاوم.

ثم خفت الجسم وخفّت الروح واستأذن مودعاً:

«لا تحلموا بعالمٍ سعيد

فبعد كل قيصر يموت..

قيصر جديد».

■■■

هل استأذن فى الوقت المناسب؟.

فى 1992 أقام مركز ثقافة قنا احتفالاً بذكراه. وكان له ابن عم ثرى يُدعى «عبدالفتاح»، عمدة القرية فى ذلك الوقت، لم يكن يشغله خلال الاحتفال سوى الحديث عن علاقته بالإسرائيليين. وكتب الصحفى مصطفى عبدالله فى جريدة الأخبار بعد عودته من هناك يقول إن العمدة -ابن عم «لا تصالح»- كان يتحدث بفخر عن تجربته فى الزراعة بالتنقيط، وعن مدى دقة الخبراء الإسرائيليين فى التعامل مع أرضه والاهتمام بمحصوله!.

هكذا: من الأرض التى وطأها إسرائيليون.. خُلِقَ كبرياء وعدوانية أمل دنقل، وفيها وُوريت خبيئته: «قبل ثلاثة أشهر من وفاته طلب أمل أن يُدفَن أمام مقبرة أبيه. وعندما ذهبنا لدفنه وجدنا مصلى فى المكان الذى حدده، فاستأذنا وحفرنا فيه قبراً».. يحكى عبدالرحمن الأبنودى.

ليس أسوأ من أن يبول كلب على قبر ميت. والصورة التى لا تفارقنى منذ غاب أمل عن الدنيا أن كلباً صهيونياً تسلل إلى قبره ذات صباح، وبال عليه وهو يضحك فى هيستيريا، مردداً:

«لا تصالح

ولو قيل ما قيل من كلمات السلام

كيف تستنشق الرئتان النسيم المدنس؟

.. .. .. .. .. .. .. .. ..

لا تصالح

ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام

واروِ قلبك بالدمِ..

واروِ التراب المقدس..

واروِ أسلافك الراقدين..

إلى أن ترد عليك العظام».

ظلت هذه الصورة تلاحقنى حتى أصبحت إسرائيل على عتبات غرف النوم، وفى طبق الفاكهة، وفى هواء المقهى، وفى الدم الذى يتخثر على أسفلت الشوارع و«نجيلة» الميادين.. لماذا؟. لأننا لم نؤمن بـ«رسالة» أمل.. ولم نصدّقه!.

■■■

كتب الناقد الراحل رجاء النقاش فى مجلة «المصور» فى 12 أغسطس 1988: «أخيراً صدر كتاب (أمل دنقل.. أمير شعراء الرفض) للكاتب نسيم مجلى. كان الكتاب مركوناً فى مخازن ما يسمى (إدارة الأدب) فى وزارة الثقافة، لأن مديرها فى ذلك الوقت، الدكتور عبدالعزيز الدسوقى، كان معترضاً على العنوان. ولم يهدأ له بال إلا بعد أن انتزع غلاف الكتاب بعد طبعه ووضع مكانه غلافاً جديداً بعنوان (أمل دنقل) فقط!».

كان أمل -كأى نبي فى وطنه- يعيش فى أجواء مقبضة: رافضاً ومعانداً من ناحية، منبوذاً ومضطهداً من ناحية أخرى. كان إعلام السادات يراه شيطاناً رجيماً، بل عدواً للوطن. وعندما طلب بعض الأدباء من رئيس اتحاد كتّاب مصر آنئذٍ، ثروت أباظة، أن يساهم الاتحاد فى تحمل نفقات علاج أمل بوصفه عضواً فيه.. وافق على صرف مائة جنيه فقط بشرط أن يتقدم أمل بالتماس!. وطلب يوسف إدريس من وزير الثقافة -محمد عبدالحميد رضوان- إرسال باقة ورد «تعبيراً عن اهتمام الوزارة بشاعر عظيم». لكن الوزير لم يرسل ورداً ولا شوكاً!، واضطر يوسف إدريس أن يستحلف رئيس وزراء مصر فؤاد محيى الدين فى مقدمة مقال بجريدة الأهرام (17 مايو 1982) بزمالتهما فى كلية طب قصر العينى -«أيام كانت تقود الكفاح الوطنى»- لكى يغير قراره المهين بـ«علاج المواطن محمد أمل فهيم محارب دنقل، نزيل معهد الأورام، على نفقة الدولة بالدرجة الثانية دون مرافق، وبنفقات قدرها ألف جنيه»!.

كان أمل قاسياً على نفسه: «كف عن السجائر».. قال الطبيب ورد أمل: «إن الكف عن السجائر لن يعيق السرطان الهادر فى صدرى. دعها.. فهى متعتى الأخيرة». وكان قاسياً على محبيه: «فما نكاد نلتقى إلا ونتشاجر، وكأن ما بيننا غضب، وعناد ساطع».. تقول عبلة الروينى، وتقول أيضاً: «أغضب منه كثيراً فأتركه فى منتصف الطريق، لكننى سرعان ما أعود للبحث عنه فى أماكنه، فى المساء: أنت شاعر جيد وعاشق شرير». وكان قاسياً حتى على من آمنوا برسالته:

«أيها الواقفون على حافة المذبحة

أشهروا الأسلحة

سقط الموت وانفرط القلب كالمسبحة

والدم انساب فوق الوشاح

المنازل أضرحة

والزنازن أضرحة

والمدى أضرحة

فارفعوا الأسلحة

واتبعونى

أنا ندم الغد والبارحة

رايتى عظمتان وجمجمة

وشعارىَ الصباح».