معركة سرت.. ومستقبل الجيش الوطنى الليبى

جمال طه

جمال طه

كاتب صحفي

منذ أن دخلت «حكومة الوفاق الوطنى» طرابلس بدأت السباق على الشرعية مع حكومة الثنى وبرلمان طبرق وجيشه الوطنى، وبات واضحاً أن معركة سرت ضد «داعش» هى الساحة التى ستحسم هذا السباق، الغرب قلق من تدهور الأوضاع، قدَّر أن خوض المعركة ينبغى ألا يتجاوز الربع الأول من 2016، فشل «الوفاق» فى الحصول على تأييد البرلمان فرض التأجيل للنصف الثانى، الأطراف الليبية المتصارعة تسابقت نحو سرت، كسباً للتأييد الدولى، وتأكيداً لشرعيتها.

حفتر بادر بإعلان «معركة سرت الكبرى»، دفع بقواته غرباً، عبرت المثلث النفطى، وهى تراهن على قوات حرس المنشآت النفطية بقيادة «إبراهيم الجضران»، لكن «الوفاق» نجحت فى استقطابه، بعد أن وعدته بالاحتفاظ بالسيطرة على المناطق التابعة له بالهلال النفطى، فانقلب على حفتر، كما تمكنت من ضم كتائب ميليشيات مصراتة، وعلى رأسها «المجلس العسكرى»، ما سمح لها بشن عملية «البنيان المرصوص»، وفرض حظر على أى عمليات عسكرية بالمنطقة دون التنسيق معها، ما قطع الطريق على حفتر، واضطره للتوقف عند إجدابيا ومرادة 200 كيلومتر جنوب شرق سرت لأن تقدمه يعنى الصدام.. إجهاض تحرك حفتر جزء من خطة حصاره؛ البرغثى وزير الدفاع زار بنغازى، التقى بعض القيادات، وعقد مؤتمراً صحفياً ليعلن انشقاق «قوة المهام الخاصة بجهاز مكافحة الإرهاب»، وكتيبة «الإسناد لجهاز المخابرات» ببنغازى عن قوات حفتر، وانضمامهما لقوات «الوفاق»، ما يعكس نجاحه فى استغلال عدم إحكام حفتر سيطرته على المنطقة حتى الآن، فى محاولة إنشاء قوة عسكرية موالية بالمنطقة الشرقية، تُكمِل الحصار، وتقضى على حفتر نهائياً.. حكومة طبرق أعلنت حل الكتيبتين، واعتبرتهما «ميليشيات إرهابية»، لكن ذلك لا يغير الواقع على الأرض.. حفتر التزم موقف الترقب، مراهناً على غرق الميليشيات بمستنقعات سرت، واستنزاف قوتها، عل ذلك يسهل مهمته فيما بعد.

«داعش» بادرت بالتمدد غرباً بمناطق بوقرين والسدادة وأبونجيم، لإجهاض العملية، وإرباك الحشود، لكن ميليشيات مصراتة، التى تضم قرابة 2000 عنصر استردتها سريعاً، وهاجمت سرت من الغرب والجنوب، احتلت محطة الطاقة، التى تزود سرت بالكهرباء، سيطرت على قاعدة القرضابية ومعسكر كتيبة الساعدى جنوب غرب المدينة، لمنع وصول الدعم الجوى، وحررت ميناء سرت، بعمليات إنزال بحرى، مستغلة أن وجود «داعش» به كان رمزياً، ولأن السيطرة عليه تمكنها من إحكام حصار المدينة، ومنع وصول التعزيزات والدعم عن طريق البحر، وقطع طريق الانسحاب بحراً بعد رصد تجهيزها لمجموعة قوارب مطاطية.. قوات حرس المنشآت هاجمت من الشرق، نجحت فى استعادة منطقتى بن جواد والنوفلية، على بعد 160 و127 كم من سرت، وتقدمت للإطباق على المدينة، الضواحى الغربية والجنوبية تم تحريرها، والسيطرة على معسكر أبومريم ومعظم مبانى مركز «واجادوجو» للمؤتمرات، مقر إدارة «داعش»، التى أجبرت على التقهقر للجامعة ومركز المدينة.

سرعة تقدم الميليشبات بسرت أكدت حصولها على دعم خارجى كبير، يتجاوز الدعم التقنى والمخابراتى، نفى «الوفاق» حاجتها لقصف جوى غربى، تم بتوصية استهدفت تجنب تأثيرات ذلك السلبية على شعبيتها لدى الرأى العام.. الناطق الرسمى للقوات اعترف بوجود 25 مستشاراً للتدريب، وبوصول طائرات قطرية تحمل الدعم، وإن ادعى أنه يتعلق بمساعدات طبية ولوجستية لمستشفيات مصراتة، صحيفة «لوموند» أشارت لوجود قوات خاصة من بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا، وكوبلر أشار إلى أن قوات أمريكية وفرنسية ساهمت فى هجوم سرت، ووزير الدفاع الفرنسى أكد ذلك.

المكاسب التى حققتها «الوفاق» فى سرت أزعجت حكومة الثنى، والبرلمان، والجيش الوطنى، لأن انتصار ميليشيات مصراتة سيحولها لقوة عسكرية، تفرض شروطها فى المشاركة السياسية داخل مؤسسات الدولة، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، كما سينعكس تأثيرها على العلاقات الخارجية، خاصة تجاه داعميها الرئيسيين وأبرزهم تركيا وقطر، فضلاً عما يسببه صعودها من خلل فى التوازن القبلى، بالغ الأهمية فى الدولة الليبية، مما يفسر حالة القلق التى تنتاب القبائل حالياً.. ناهيك عن أن المكاسب قد تفتح شهية «الوفاق» للتحرك لمواجهة حفتر، واسترداد المناطق الاقتصادية التى يسيطر عليها بالهلال النفطى والمنطقة الشرقية، ما يهدد بمعركة ضارية بين الشرق والغرب الليبيين، خاصة فى ضوء حث الصادق الغريانى مفتى ليبيا للمقاتلين، بالتقدم نحو بنغازى «لحسم المعركة ضد قوات عملية الكرامة؛ لكونها المعركة التى ستحدد مصير ليبيا»، وبالفعل استجابت «سرايا الدفاع عن بنغازى» الموالية له، وانتزعت الحى الصناعى جنوب إجدابيا من الجيش.. ما يفسر إعلان البرلمان للنفير العام، وتعيين الناظورى رئيس الأركان حاكماً عسكرياً للمنطقة الشرقية.

■ ■ ■

تحرير سرت لا يعنى القضاء على داعش، 95% من أهالى المدينة تمكنوا من النزوح، رغم محاولة «داعش» الإيحاء بأنها تسعى لمنعهم، عملية النزوح من سرت جزء من خطة «داعش» لإعادة التموضع فى الداخل الليبى، وإعادة هيكلة التنظيم، ومراجعة استراتيجيته، لتتخلى عن فكرة الإمساك بالأرض، التى تيسر عملية استهدافها، وتعود للاعتماد على البؤر والخلايا التى تعمل فى ظل بيئة تعمل على كسبها، لتوفر لها الحاضنة المناسبة، عناصر داعش وخلاياها اندست بين النازحين، واتجهت لإعادة التوطين كخلايا سرية نشطة، بمناطق أخرى، ولعل ذلك يفسر ضعف المقاومة فى سرت، خلافاً للمعتاد فى مواجهتها للقوات المهاجمة، الجفرة فى الوسط استقبلت أعداداً منهم، والجنوب بصحرائه الواسعة هو الملاذ الأخير، وقد نجحت بالفعل فى زرع بؤر قوية فى طرابلس العاصمة، وترهونة وزليتن والزاوية وصرمان وغريان وسبها وصبراتة، التى ربما كانت الوجهة التالية لميليشيات «الوفاق» بعد سرت، حيث إنها لا تبعد سوى 70 كم عن العاصمة، والغارة الأمريكية التى قتلت 50 عنصراً داعشياً تونسياً فبراير الماضى أكدت كثافة وجودها بها.

الموقف فى ليبيا يشهد تغيرات استراتيجية بالغة الأهمية، تفرض القراءة الصحيحة للمشهد، الحفاظ على الجيش الوطنى يتمشى ومصالح القوى الإقليمية الرئيسية، خاصة مصر والسعودية والإمارات والأردن، وهو ما تتفهمه بعض القوى الدولية كروسيا وفرنسا، وتبدى استعداداً لتقبل وجود حفتر، لكن الدعم المقدم له لا يعادل الدعم التركى والقطرى المستمر للميليشيات والإخوان، بالطائرات، أو براً عن طريق السودان، ولا يتناسب مع ما تفرضه الاحتياجات الاستراتيجية للموقف، لذلك لم يتمكن حتى الآن من تطهير كامل المنطقة الشرقية، ولم يحكم سيطرته عليها، أو يؤمِّن مراكز الثروة الاقتصادية التى يسيطر عليها، حتى يصبح قوة لا يمكن تجاهلها فى أى تسويات سياسية مقبلة.. فهل نعيد تقدير الموقف، ونراجع مدى كفاية الدعم من عدمه، أم ننتظر حتى يتمكنوا من تصفية الجيش الوطنى، ويصبح للإخوان والميليشيات دولة على حدودنا الغربية؟!