عن الدعم والاحتكارات
الدعم -من حيث المبدأ- مفسدة كبرى. ينطبق هذا على الدعم الذى يذهب إلى المنتجين أو المستهلكين على حد سواء. الدعم ليس منحة حكومية مجانية يستفيد منها البعض، ولكنه تكلفة يتحملها دافعو الضرائب، وكل من حرم من الاستفادة من الموارد الحكومية الموجهة للدعم. ولكن لما كان بعض الدعم ضرورياً لأسباب تنموية واجتماعية، فإنه لا بد من تضييق نطاقه بقدر الإمكان، ومن مراجعته على فترات زمنية متقاربة للتأكد من فاعليته وحجمه وضرورات استمراره. فى هذا السياق فإنه لا بأس إطلاقاً فيما تقوم به الحكومة الحالية من إعادة النظر فى أسعار الكهرباء والمياه وتعريفة ركوب القطارات ومترو الأنفاق كطريقة لترشيد الدعم، ولتمكين هذه المرافق الحكومية المهمة من مواصلة تقديم خدماتها بكفاءة مناسبة.
تكلفة تسيير هذه المرافق تزيد كثيراً على عائداتها ولابد من رفع الأسعار لتحقيق التوازن المطلوب. هذه هى الحجة الرئيسية التى تقال فى هذا المجال، وأظنها حجة صحيحة، ولكنها صحيحة بشكل جزئى فقط. فالرأى العام وأصحاب المصلحة من دافعى الضرائب والمستفيدين من خدمات هذه المرافق الحكومية لا يعرفون أى شىء عن الطريقة التى يتم بها حساب التكلفة فى هذه المرافق، ولا عن أثر عوامل مثل العمالة غير المدربة والعمالة غير الضرورية الزائدة، والأجور والمكافآت المبالغ فيها، والأشكال المختلفة من إهدار الموارد الناتج عن انخفاض الكفاءة أو الفساد؛ لا يعرفون أى شىء عن أثر كل هذا فى رفع التكلفة.
مرافق المياه والكهرباء والسكة الحديد كلها تتمتع بوضع احتكارى فى مجالها. والمواطن مضطر للتعامل مع هذه المرافق مهما كان مستوى الخدمة الذى تقدمه أو الأسعار التى تفرضها، فالبديل منعدم والمنافسة غير موجودة. ضرر الاحتكارات الصناعية والتجارية البالغ على الاقتصاد وعلى مصالح المواطنين هو أمر مؤكد. فالوضع الاحتكارى يحمى صاحبه من المنافسة بكل ما يأتى معها من ضغوط تحفز تطوير المنتجات وزيادة الإنتاجية وتخفيض التكلفة وتحسين خدمة العملاء، فإذا غابت المنافسة وساد الاحتكار تدهورت جودة المنتجات، وزادت تكلفة إنتاجها، وارتفع سعرها، وجرت الاستهانة بخدمة العملاء الذين هم فى النهاية أسرى لدى المحتكر، وسوق مضمونة لمنتجاته رغم ما قد تكون عليه من رداءة.
لكل هذا تضع الدول تشريعات خاصة لمنع الاحتكار ولمعاقبة التصرفات الاحتكارية، حتى تظل المنافسة العادلة هى القاعدة الحاكمة للنشاط الاقتصادى. لكن تظل هناك مشكلة كبيرة فى التعامل مع الاحتكارات التى تتكون بشكل طبيعى عندما تكون المنافسة شبه مستحيلة فى مجال من المجالات، ينطبق هذا بشكل واضح على مجالات مثل توليد الكهرباء والمياه وتوزيعها، والنقل بالسكك الحديدية، والاتصالات الأرضية. ويذهب أغلب أصحاب الرأى إلى أنه عندما يكون الاحتكار طبيعياً أو حتمياً فإنه من الأفضل أن يكون مملوكاً للحكومة وليس للقطاع الخاص، وهذه هى الحالة المعروفة فى مصر.
لكن مجرد امتلاك الحكومة للمرفق العام صاحب الوضع الاحتكارى ليس ضماناً لتجنب المشكلات الناتجة عن الاحتكار، بل وربما أضاف إلى هذه المشكلات -أو استبدلها- بمشكلات الإدارة الحكومية، التى عادة ما تتسم بانخفاض الكفاءة وإهدار الموارد وانتشار الواسطة وضعف الرقابة والمتابعة، وكلها عوامل تزيد التكلفة، ويصبح مطلوباً من المواطنين المضطرين للتعامل مع هذه المرافق تحمل التكلفة الزائدة فى كل مرة تتم فيها مراجعة حسابات التكلفة والعائد لتحريك الأسعار وترشيد الدعم.
أداء مرفقى الكهرباء والمياه فى مصر تحسن كثيراً فى السنوات السابقة، لكن مرافق حكومية احتكارية أخرى -أهمها السكك الحديدية- بلغت من السوء حداً لا يمكن احتماله. العديد من المؤشرات تشير إلى أن السكة الحديد تعانى من ارتفاع التكلفة الناتج عن إهدار الموارد وضعف الكفاءة والفساد، فيما مؤشرات أخرى تشير إلى أن التحسن فى أداء شركات المياه والكهرباء ارتبط بارتفاع التكلفة الناتج عن الأجور والمكافآت المرتفعة، حتى إن العاملين فى هذه الشركات يعتبرون من المحظوظين بين أقرانهم العاملين فى الحكومة وشركات القطاع العام، وحتى بات التوظف فى هذه الشركات يستلزم واسطة نافذة أو رشوة كبيرة.
هناك نظام متبع لمتابعة وتقييم الأداء فى الشركات الحكومية، ولكن هذا النظام بعيد جداً عن أن يكون كافياً عندما يأتى الأمر للشركات الحكومية ذات الوضع الاحتكارى. الأرباح وعائد رأس المال هى طريقة مناسبة لتقييم أداء شركات حكومية تتنافس مع القطاع الخاص ومع شركات حكومية أخرى، وهكذا عرفنا أن شركات الغزل والنسيج الحكومية خاسرة، أو فى الحقيقة فاشلة، وهكذا عرفنا أيضاً أن شركات الأسمنت والحديد الحكومية تدار بكفاءة أقل من مثيلتها التابعة للقطاع الخاص. المنافسة التى تواجهها السكك الحديدية من وسائل النقل الأخرى هى التى كشفت الفشل وسوء الإدارة فى هذا المرفق الحكومى. ولكن ماذا عن شركات مثل المياه والكهرباء التى لا تواجه منافسة من أى نوع، والتى يمكننا الحكم على أدائها تبعاً لمدى توفر الخدمة، ولكننا لا نستطيع الحكم على كفاءة إدارتها لمواردها ولا على خلوها من أشكال سوء الإدارة والفساد التى أصبحنا مطالبين بتحمل تبعاتها ترشيداً للدعم.
مراقبة الاحتكارات الحكومية تحتاج إلى تشريع جديد يحدد قواعد تقييم أداء هذه الشركات، ويحدد الجهة المخولة بذلك. من الأفضل وضع هذه المسئولية فى يد أحد أجهزة المتابعة والرقابة القائمة بدلاً من إنشاء جهاز جديد يضاف إلى البيروقراطية الحكومية المتضخمة. وقد يكون فى توسيع اختصاصات جهاز حماية المستهلك لتشمل مراقبة أداء الاحتكارات الحكومية حل لهذه المشكلة، فهل تصل الرسالة إلى مجلس النواب؟