خرافة المهنية فى الإعلام الغربى

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

المتابعون لوسائل الإعلام الغربية على اختلاف أنواعها يدركون جيداً أنه إعلام إن لم يكن موجهاً، لا سيما فى لحظات الأزمات العالمية، فهو على الأقل مُنحاز لما يصفونه بمنظومة القيم الغربية، فضلاً عن الانحياز التلقائى للمصالح الكبرى التى يجتمع عليها الغرب، وأبرزها استمرار التفوق الغربى وسيادة الغرب على ما عداه من قوى وتكتلات. وذلك على نقيض ما يجرى فى الإعلام العربى الذى يوجد فيه تنوع هائل بين الحد الأدنى من المهنية والحد الأقصى من الانحياز والعدائية والبحث عن الإضرار المعنوى بمجتمعات وأطراف عربية أخرى، وما تقوم به قناة الجزيرة خير شاهد على الدور التخريبى الذى تبرع فيه فى قضايا وأزمات عربية يُفترض أنها تكرس للتضامن وليس لكسر العظام والتشويه والتحريض على العنف، إلى آخر مفردات الفساد الإعلامى الذى يميز أداء هذه القناة فى السنوات الخمس الماضية على وجه التحديد.

المهنية التى نقصدها هى مجموعة الضوابط والمعايير التى تحكم عمل هذه المهنة، ومدى الالتزام بها من قبَل العاملين بهذه المهنة والمؤسسات المتخصصة وكذلك المؤسسات التطوعية والنقابية التى تلتزم بتطبيق هذه الضوابط ومعاقبة المخالفين لها. وأبرز تلك الضوابط البعد عن الانحياز، وعدم التوجيه للرأى العام، وعدم تلوين الأخبار، والاستناد إلى المصادر الموثوقة، ونشر الوعى بشأن القضايا العامة، غير أن التطبيق يختلف تماماً، وإن بدرجات، بين وسيلة إعلامية وأخرى. والشائع لدى كثير من الخبراء فى مجال الإعلام أن الإعلام الغربى يمثل نموذجاً ملهماً فى الالتزام بمعايير المهنة المُشار إليها، ودائماً ما يتم تقديم النُصح بأن يؤخذ من التجارب الغربية والأمريكية باعتبارها نموذجاً وأن تطبق فى وسائل إعلامنا الوطنية.

مثل هذه النصيحة ليست إيجابية فى مجملها، لأن متابعتنا لأداء الإعلام الغربى، خاصة وسائله العملاقة صاحبة الشهرة والانتشار لا سيما حين يتعلق الحدث بقضية عربية أو مصرية، فإننا نجد انتهاكاً فاضحاً لأبسط المعايير والضوابط المهنية، فالأولوية لديهم فى هذه اللحظات ليست فقط نشر الوقائع مبتسرة وملونة، بل الترويج لأكاذيب معينة تؤدى فى النهاية إلى التشويه المعنوى المقصود، وبلورة رأى عام مضاد للحقائق المجردة، ومن ثم التأثير على مصالحنا وحقوقنا بشكل عام، مما يجعلنا دائماً فى موقف المدافع الذى يريد أن يستمع إليه أحد ولكن دون جدوى.

إن قيام وسائل إعلامية وصحفية مثل «سى إن إن» الأمريكية و«الجارديان» البريطانية و«التايمز» و«لو سوار» البلجيكية وغيرها بالتركيز على جوانب معينة وبطريقة تؤدى فى النهاية إلى تحميل مسئولية سقوط الطائرة إلى شركتنا الوطنية قبل الانتهاء من أى تحقيقات تتطلبها مثل هذه الحوادث الغامضة وفقاً للقانون الدولى يكشف مدى الانحياز وغياب المهنية لدى هذه الوسائل التى يُنظر إليها كتطبيقات نموذجية للمهنية والاحتراف. والانحياز هنا واضح ولا غموض فيه، فهم يدافعون عن مصالحهم المشتركة سواء كانت مصالح شركات كبرى لا سيما صانعة الطائرة، أو سُمعة مطار كبير كمطار شارل ديجول، أو مصلحة شركة تأمين عليها أن تعوض الخسائر وتقدم التعويضات لأسر الضحايا. وبينما نؤمن بأن هذا سلوك منحاز وغير مهنى، فهم يرونه سلوكاً طبيعياً يحقق مصالحهم ولتذهب الحقيقة إلى الجحيم.

لقد فضحت الصحفية الفرنسية «فينسيان جاكيه» الأمر حين قدمت استقالتها ورفضت التوجيهات الصادرة إليها من إدارة تحرير صحيفة «لو سوار» البلجيكية الصادرة بالفرنسية، والتى طالبتها بأن تكتب عن معاناة أسر الضحايا مشفوعة بغياب عناصر الأمان فى شركة مصر للطيران. وإذا تصورنا أن تحقيقاً كهذا كُتب على هذا النحو، فكيف سيكون مردوده للقارئ فى البلدان الأوروبية وغيرها؟ ببساطة إن غياب معايير الأمان فى الشركة المصرية هو السبب فى معاناة أسر الضحايا. وهى رسالة خبيثة بكل المعانى وكان يمكن تمريرها من خلال ما يُعرف بالمعالجة الإنسانية للأخبار التى تهتم أساساً بالتكثيف الدرامى والشعورى للحدث وليس البحث عن المعلومات الموثقة بشأنه. وصحيح أن الصحيفة البلجيكية رفضت انتقادات الصحفية الفرنسية، وصوّرت الأمر على أنه سوء فهم من الصحفية للتعليمات التى وُجّهت إليها، وهو تصحيح لا ينفى الانحياز وغياب المهنية. والأمر نفسه ينطبق على ما قيل من اعتذار مراسلة «سى إن إن» بالقاهرة لأسرة قائد الطائرة المنكوبة عما نشرته الشبكة من خبل يزعم انتحاره، فهل وصل هذا الاعتذار إلى مشاهدى الشبكة حول العالم لينصف الرجل بعد أن تم تجريح سمعته بشكل متعمد؟ لا أعتقد، فقد حدث الضرر ولم ينصفه الاعتذار.

الحديث عن غياب المهنية بمعناها الواسع وغلبة الانحياز فى أداء الإعلام الغربى ليس جديداً، فهو قديم ومتكرر، وكثير منا يذكر حالة الإعجاب والانبهار التى سادت العالم أثناء قيام شبكة «سى إن إن» بتغطية الحرب الأمريكية فى الخليج والتى تُعرف بحرب تحرير الكويت، إذ قامت الشبكة باحتكار نشر الأخبار الميدانية على مدار 24 ساعة بتنسيق كامل مع البنتاجون الأمريكى، وحيث لم يُسمح لأى مصدر إعلامى آخر بتغطية العمليات الأمريكية، مما أدى إلى اعتبار شبكة «سى إن إن» لاعباً دولياً بما يعنيه ذلك من القدرة على التوجيه وفرض حقائق معينة أياً كانت مصداقيتها. غير أن الدراسات المعمقة لتغطية الشبكة لأحداث الحرب أثبتت أنها لم تكن مهنية ولكنها كانت منحازة بكل المقاييس، فكل ما كان يهم الشبكة هو إبراز تفوق الأسلحة الأمريكية وقدرتها على إصابة أهدافها بدقة وقتل أكبر عدد ممكن الأفراد سواء كانوا جنوداً أو مدنيين أبرياء، وهم الذين وصفتهم الشبكة فى تقاريرها بأنهم ضحايا الدعاية الموالية لصدام، نافية بذلك مسئولية القتل عن الجيش الأمريكى. وحين ذلك كتب الكاتب التونسى جمال الدين القرماوى فى صحيفة الحرية قائلاً: «مر علينا وقت لم نكن نستطيع أن ننظر فيه إلى أعين الصحفيين الغربيين، فقد أنشأوا العديد من الُعقد فينا جعلتنا نشعر بأننا أقزام وبلا كفاءة، وحين رأيناهم يعملون وجدنا أنهم يحنثون باليمين وينافقون وينشرون العداء، رأيناهم يشكلون الرأى العام فى أيديهم مثل الطين، رأيناهم يضفون الرومانسية على القنابل الذكية ويسمون نتائجها المروعة بالجراحة التكنولوجية غير الدموية، رأيناهم يبكون طائراً لأنه غرق فى بقعة نفط، ورأيناهم أيضاً يصفون الأطراف الممزقة للضحايا العراقيين بأنهم مجرد مؤيدى دعاية صدام. كان هناك وقت كنا نظن أنهم من كوكب آخر حيث الأنظمة والشعوب والنباتات والأشجار تتنفس الديمقراطية، لكن الأحداث الأخيرة قد فتحت أعيننا. نعم لقد فتحت أعيننا ولم نعُد هؤلاء الذين يتم التلاعب بهم».