"كان" 2016: وودي آلن يفتتح دورة تزخر بكبار المخرجين

كتب: أحمد محمد عبدالباسط

"كان" 2016: وودي آلن يفتتح دورة تزخر بكبار المخرجين

"كان" 2016: وودي آلن يفتتح دورة تزخر بكبار المخرجين

على الرغم من الإجراءات الأمنية المشددة التي شهدتها مدينة "كان" الفرنسية بسبب ظلال الهجمات الأخيرة التي شهدتها باريس وبروكسل، جاء فيلم افتتاح الدورة 69 لمهرجانها السينمائي الشهير، "كافيه سوسايتي" (مقهى المجتمع) ناعما وسلسا وفاتنا، حمل توقيع اثنين من رموز السينما العالمية، هما وودي آلن مخرجا وفيتوريو سترارو مصورا، نقلنا عبر صور ساحرة وسرد ساخر إلى عالم آخر ممتلئ بالحنين إلى ثلاثينيات القرن الماضي في نيويورك وهوليوود، والتي كانت انطلاقة عصرهما الذهبي.

لقد نجحت إدارة المهرجان في أن تضع على رأس هذه الدورة القوية، بمشاركة العديد من أبرز صناع السينما في العالم فيها، فيلما لـ"وودي آلن" وهو في الثمانين من عمره، وفي مشاركته الثانية عشرة في المهرجان من بين أكثر من خمسين فيلما أخرجها (قليل منها للتليفزيون)، والثالثة في افتتاح فعالياته بعد "نهاية هوليودية" في عام 2002 و"منتصف الليل في باريس" عام 2011.

كما شارك في المهرجان "سترارو" الذي يعد من أبرز مدراء التصوير المعاصرين في السينما العالمية، والذي اشتهر بتصوير معظم أفلام المخرج الإيطالي الشهير برناردو برتولوتشي، فضلا عن عدد من أفلام فرانسيس فورد كوبولا وكارلوس ساورا ووارن بيتي وآخرين.

وضمَّت هذه الدورة في الخمسة والخمسين فيلما التي ضمها برنامجها الأساسي في المسابقة وخارجها أفلاما لـ"كين لوتش، جيم جارموش، بيدرو المودفار، الأخوين داردن، أوليفييه أسايس، بول فيرهوفن، برونو ديمون، شون بن، كريستيان مونغو، ستيفن سبيلبرغ وآخرين".

وزيرة الثقافة الفرنسية أودري أزولاي تتوسط رئيس المهرجان بيير ليسكور والمندوب العام تييري فريمو في حفل افتتاح مهرجان "كان" 2016 فيلم يشبه الحياة في إنتاجه الغزير (فهو يصور فيلما صيف كل عام تقريبا)، يبدو وودي آلن وكأنه يصنع فيلما واحدا مستمرا، يقتطع مشاهد مختلفة من الحياة في جريانها المستمر ويقدمها عبر وجهة نظر شخصية ساخرة وينثر بينها بعض تأملاته في معنى الحياة أو الموت أو عبثيتها.

وهكذا يواصل فيلم "كافيه سوسايتي" ترديد أصداء من أفلام وودي آلن الأخرى، وتأملاته في الحياة والموت، الواقع السينمائي والواقع الحقيقي، الحب والرغبة، البراءة والزيف، الشعور بالذنب، التفسيرات الدينية التي يغلفها بحس من السخرية، العودة أو الحنين إلى زمن مضى وغيرها.

ويتحرك "آلن" في فيلمه الجديد بين نيويورك (مكانه المفضل الذي ولد وترعرع فيه وصور فيه معظم أفلامه) وهوليوود التي مر عليها في عدد من أفلامه، كما هي الحال في "نهاية هوليودية" و"ذكريات ستاردست"، وعندما يقدم مشاهد مدينته نيويورك تأتي هذه المرة بلمسة تحد من المصور البارع ستورارو لأحد أغنى أفلام ألن بصريا، فيلم "منهاتن".

ومثل المخرج نفسه، يبدو بطل الفيلم بوبي (أجاد أداء دوره الممثل جيسي إيزنبرغ) نيويوركيا من عائلة يهودية من حي برونكس لا يحب العمل مع والده (كين ستوت) فتتوسط أمه له لدى أخيها فيل (أدى دوره بتميز الممثل ستيف كارل) والذي يعمل وكيلا شهيرا للفنانين في هوليود، ويبدو شخصية مواربة ومبالغة وغير مستقرة وطريفة في الوقت نفسه.

ويجد الخال "فيل" لابن أخته عملا هامشيا إلى جانبه، ويطلب من سكرتيرته فوني (فيرونيكا) (الممثلة كرستين ستيوارت) العناية به وتعريفه على المكان، لكن بوبي الشاب الرومانتيكي الذي ما زال يحتفظ بالكثير من سمات براءته يقع في حبها، ربما لم تعد فوني السكرتيرة تحتفظ بالكثير منها فهي قد سبقته إلى عالم فيل (بكل فيه من رياء وزيف).

ويكتشف "بوبي" لاحقا أنها على علاقة غير مستقرة مع خاله، فنراه يقترب إليها بقوة ثم يطلب منها الابتعاد عنه لأنه لا يستطيع ترك زوجته، لكنه يعود إليها بقوة حين يكتشف علاقتها مع ابن أخته، وتصبح هذه العلاقة الثنائية مصدر مفارقة وسخرية في الفيلم.

وبعد أن يحصل "بوبي" على فرصة عمل في نادٍ ليلي في نيويورك بتوسط من خاله، يقرر العودة إلى مدينته ويطلب من فوني أن تتزوجه لكنها تختار الزواج من خاله الذي عاد إليها.

ومع الانتقال إلى نيويورك يتخذ السرد بعدا آخر في متابعة حياة بوبي ونجاحه في عمله وانتقاله من مرحلة الشاب الحالم البريء إلى الرجل العملي الذي يتقدم في عمله بنجاح.

كما نتابع أحوال مجمل عائلته الكبيرة، لاسيما حياة أخيه بن (كوري ستول) الذي اختار أن يكون رجل عصابات قاس يقتل ضحاياه بسهولة ويدفنهم في الخرسانة أثناء صبها، ونراه لاحقا يحكم بالإعدام ويستغل آلن كعادته هذا الخيط السردي ليقدم تأملات ساخرة من عالم ما بعد الموت مع إقناع قس لـ"بن" بالتحول إلى المسيحية قبل إعدامه، ليضمن حياة أفضل ما بعد الموت حسب تعبيره، واختياره لاحقا حرق جثته وذر رماده في الحديقة قرب النادي.

وبعد أن يتزوج بوبي من امراة تحمل اسم حبيبته نفسه وينجبا طفلا، يظهر خاله يوما مع زوجته في النادي، فينهض في داخله من جديد حبه لها، ويلتقيان في أكثر مرة معا وسط انشغالات خاله في نيويورك، وينهي آلن فيلمه بنهاية مفتوحة بنظرة حالمة ممتلئة بالحنين من بوبي وفوني رغم أن كل واحد منهما وسط عائلته في مكان مختلف.

في بنائه السردي حرص آلن على أن يستخدم صوت الراوي العليم لرواية أحداثه، والتعليق الساخر في الغالب عليها، وأداه بصوته طوال الفيلم، إذ حرص، كما أوضح في مقابلة مع مجلة هوليود ريبورتر، على أن يترسم شكل الرواية في سيناريو فيلمه "أردت أن أقدم نوعا من الرواية في الفيلم عن عائلة وعن العلاقات بين أفرادها بعضهم مع بعض، وعلاقة الحب التي يعيشها البطل، أردتها أن تمتلك بنية الرواية، كي أتمكن من الحركة حول الشخصيات والتمعن في مختلف أعضاء العائلة، لذا رويت الأحداث بنفسي لأنني كنت ها نوعا من كاتب الرواية التي ستخبرها عندما ترى الفيلم".

وكعادته أيضا ظل آلن ينثر تعليقاته الساخرة على امتداد الأحداث كما ينثر إشارات إلى شخصيات فنية شهيرة في هوليود وأماكنها.

وآلن مخرج ممثلٍ بامتياز ينجح في قيادة ممثليه في الغالب لتقديم أفضل ما لديهم في تقمص شخصياتهم، ونجح هذه المرة في استخلاص أداء رائع من الممثل جيسي إيزنبرغ (يتذكر البعض أداءه لدور مارك زوكربيرغ مؤسس موقع فيسبوك، الذي ترشح عنه للبافتا وللأوسكار) في دور بوبي، حيث عكس ذلك الانتقال من صورة الشاب الحالم والمتمتع بقدر من البراءة إلى صورة الشخص العملي مع ظلال من تلك الحلمية والبراءة.

وحاولت ستيورات أن تعكس سلبية شخصية فوني، وتوزعها بين طموحاتها للوصول في عالم هوليود المزخرف وبقايا براءتها وحلميتها.

وهذا هو الفيلم الثاني لها في المهرجان إلى جانب فيلم المخرج الفرنسي أسايس "بيرسنال شوبر"، وكانت قد حصلت عن فيلمه "غيوم سيلس ماريا"، الذي وقفت فيه إلى جانب النجمة جوليت بينوش، على جائزة سيزار أفضل ممثلة مساعدة، وكانت قد اشتهرت بأدائها في سلسلة أفلام مصاصي الدماء "شفق" Twilight.

صور فاتنهوبدا تعاون آلن مع ستورارو العنصر الأبرز في هذا الفيلم، إذ صبغ الأخير المشاهد بصبغته ولمسته الفنية المميزة، فوجدنا غلبة اللون الجوزي وتدرجاته، الذي يوحي بالعتق ويعكس بنظر سترارو حقبة الثلاثينيات، على معظم مشاهد الفيلم لا سيما تلك التي يظهر فيها بوبي، وانسحب ذلك على الملابس إذ لم يظهر بوبي طوال الفيلم إلا بملابس من هذا اللون.

وفي المقابل نجد غلبة اللون الأزرق وتدرجاته على المشاهد التي يظهر فيها الخال في هوليود، كما هي الحال مع مشهد الافتتاح الرائع للحفلة في هوليوود وقت الغروب على حافة زرقة مياه المسبح التي طغت على كل شيء، أو في مشهد الحفلة في النهاية الذي تخللته إلى جانب اللون الأزرق ألوان حارة من الأحمر والأسود في هارموني حاد.

وبرع ستورارو في توزيع مساقط الضوء في مشاهده على شخصياته أو تفاصيل المكان فبدت أشبه بلوحات، كما ينثر في ديكور هذه المشاهد الكثير من اللوحات الشهيرة التي فيها أيضا إحالات مرجعية في تصوير العمل، كما هي الحال مع لوحة الفنان الإيطالي من عصر النهضة غيسيبي ارسيمبولدو الذي اعتاد رسم بورتريهات غريبة بشخصياته بالخضر والفاكهة، واللوحات التي زينت مكتب فيل.

وصور ستورارو، الحاصل على الأوسكار أكثر من مرة عن أفلام "القيامة الآن" 1979 و"ريد" 1981 و"الإمبراطور الأخير" 1987، فيلم "كافية سوسايتي" بكاميرا رقمية من نوع سوني (CineAlta F65) التي تعطي مواصفات للصورة أشبه بتلك المصورة بكاميرا 35 ملم، وهذا الفيلم يعد أول انتقالة لوودي آلن من الفيلم السينمائي إلى عالم السينما الرقمية.


مواضيع متعلقة