إدارة الأزمات ودولة المؤسسات

كمال زاخر

كمال زاخر

كاتب صحفي

ثمة حقائق أولية نحتاج لاسترجاعها فى تعرضنا للعديد من القضايا الساخنة والملغومة التى فرضت نفسها على المشهد السياسى والمشهد العام؛ حتى لا نقع فى محظور الجدل والثرثرة، وحتى لا نقف فى طابور طويل من التناول العاطفى والتصنيف التقليدى الحدى الذى صار من سمات اللحظة.

لعل أهمها أننا ما زلنا نجتاز مرحلة انتقالية تؤسس للوصول إلى الدولة المدنية بحسب القواعد الصحيحة لها، وهى مرحلة تعرف بحكم طبيعتها بالارتباك والقلق؛ فالأنظمة المنتسبة لما قبلها لا تسلم بأفولها، وتصارع بكل ما لديها للعودة والقفز على اللحظة، فإن لم تنجح أو تعثرت تسعى لتفخيخها وإن استطاعت تفجيرها، ومعها طابور ممتد من أصحاب المصالح والمواقع التى استقرت فى ظلها ومعها، وتجربتنا مع أنظمة الحكم بامتداد ما يزيد على نصف القرن تؤكد أنها كانت تنويعات على الحكم الشمولى الفردى، الذى لم تتح فيه أى إضاءات لاختبار التعددية والتدرب على الاختلاف، حتى بعد إقرار النظام الحزبى الذى ولد مبتسراً ومخاتلاً فجاء إعادة إنتاج باهت للتنظيم السياسى الأوحد.

ويؤكد الدستور فى آخر تعديلاته، 2014، أن سلطات الدولة ثلاث، ويؤكد الفصل بينها، بل أعطى مساحات أكبر للسلطة التشريعية جاءت على حساب ما استقر فى دساتير يوليو للسلطة التنفيذية ورئيس الدولة، وحصن السلطة القضائية بنصوص واضحة، بما يدفع باتجاه تحقق توازن السلطات لحساب الدولة المدنية، لكن تجربة البقاء طويلاً فى نظام حكم الفرد انعكست سلباً على تصديقنا لهذا التوازن وذاك الفصل، فيما يشبه بقاء المرء طويلاً خلف الأسوار حتى ألفها وصارت مكوناً أساسياً لنسق حياته ومنهج تفكيره، وعندما كسرت القيود، دستورياً، وفتحت الأبواب قبع فى مكانه أو فى أحسن تقدير تعامل مع واقعه الجديد بمعطيات ما استقر فى وجدانه قبلاً، ولعل هذا يفسر اتجاه المطالبات بالإصلاح والتغيير والمساءلة أيضاً إلى رئيس الدولة، وحده، دون الالتفات للمسئولية السياسية والدستورية لشركاء السلطة فى البرلمان والقضاء، ويعمق من الانفصال بين المتاح والممارس، دور الأحزاب السياسية المتراجع والمهتز بما فيه أحزاب ما بعد ثورتى يناير ويونيو، رغم أنها تضم كوادر تملك رؤى تقدمية ثورية كانت يوماً تقود الشارع نحو التغيير. ومن الحقائق المعيشة أن كثيرين، خاصة فى دوائر الشباب، ما زالوا متمسكين بآليات التعبير فى مرحلة الثورة، حتى لتخالهم يعيشون «مراهقة سياسية» فى استمراء الاحتجاجات عبر المظاهرات والإضرابات، مع البطالة الحزبية التى يرونها خياراً حياتياً ويدعمون بغير وعى سعى خصومهم التقليديين الذين ثاروا عليهم فى العودة إلى مواقعهم.

ومن الظواهر المعمقة للفجوة إدارة الأزمات بنفس المفاتيح القديمة التى لا تصلح للتعامل مع الأبواب الجديدة، وهى فى كثيرها تنظر بارتياب للشفافية والمكاشفة والمصارحة، وتفتقر للسرعة المناسبة فى إدارة الأزمات فتأتى خَصماً من سعى الرئيس الذى يتميز بالسرعة والديناميكية والحسم، وربما يكون الحل هنا توسيع دائرة المعاونين والمساعدين والمستشارين بالاستعانة بالخبراء والمتخصصين الوطنيين من جيل الوسط وهم كثر، وتقليص مساحات المنتمين للمدرسة البيروقراطية والوجوه التى تجيد تقديم نفسها لكل مقبل.

قد نكون بحاجة إلى لحظة توقف ومراجعة هى لحظة القرارات الحازمة والحاسمة المستندة إلى ظهير شعبى قوى، اختار بوعى أن يقف مع ثورة 30 يونيو، ربما تقترب من اللحظة التى قرر فيها السادات تصحيح المسار فى 15 مايو 1971 والتى أسست لانتصار أكتوبر المجيد.

هى لحظة تؤكد على الانتقال من «الفردية» إلى المؤسسية، وفق قواعد واضحة تتوافر لها الإرادة السياسية، التى تضع قيادة المرحلة فى مصاف المؤسسين للدولة المدنية لأجيالنا المقبلة.