شاعر من «داعش»

عاطف بشاى

عاطف بشاى

كاتب صحفي

فى يوم «سجسج» لا حر فيه ولا برد.. هواؤه طيب معتدل عرجت إلى صديقى وأستاذى «ضعدع الضغن»، وقد كان زميلى فى هيئة الجودة المعنية بالتعريب للمناهج الدراسية للمراحل التعليمية المختلفة.. وقد تم الاستغناء عن خدماتنا بعد رحيل الإخوان وحكومتهم..

استقبلنى الأستاذ «ضعدع» باشاً فى وجهى، فهو رجل بشاش، فشجعنى على أن أقترح عليه معاودة تفعيل «المشروع النهضوى الانبعراجى العظيم لعودتنا الحميدة إلى العصر الجاهلى السعيد»، وذلك بالسعى من جديد إلى التعريب، حفاظاً على الهوية وروح الانتماء.. فقال لى: إن «داعش» تؤيدنا وتسعى سعينا.. وما علينا غير تكوين ائتلاف الانبعراجى المقدس.. والعمل من خلاله على الجهاد الكبير لإحياء لغتنا الجميلة التى تنبّأ بها الساخر الكبير «أحمد رجب» فى قصته القصيرة «صورة واحد فصيح»، وعرب فيها السيارة «الفولكس فاجن»، إلى اسم «الخندافة» المأخوذ من صوت البعير فى ترحاله الطويل.. فيقال ناقة «خندافة» ونوق «خندافة» أى تخندف خندفة.. وهو لفظ ضارب فى القدم استخدمه الشاعر الجاهلى «حنطيط بن أبى كليئة» من أكثر من ثلاثة آلاف حول فى قصيدة هجا فيها «ابن عبس» قال فيها: وتخندفت بعيرنا فى الدعص باهقة/ تنهشر بالهفار.. وترغو مكداساً..

أما «المرسيدس» فقد استقر العزم على تسميتها بـ«الأهنوشة».. فيُقال استنهش الرجل أى امتلك «الأهنوش»..

بادر أستاذى «ضعدع» مشكوراً بتأييدى وتحمّس لعقد الجلسات الثنائية بيننا لتكوين الائتلاف وكوادره.. وكان أول اجتماع لنا خصّصناه لتعريب الشيكولاتة، واستقر العزم على تسميتها بـ«القاموخ المحلى».. وخصّصنا الاجتماع الثانى لتعريب «الموتوسيكل» إلى «الزفزافة» و«البيبسى» إلى «الخمشنون» و«الإسكالوب» إلى «العرناب»، وقد رأيت ونحن نخطو بخُطى قشيبة نحو هذا التطور «الداعشى» أن نواصل المسيرة الصحراوية فى الليل البهيم الذى تحندس حندسة فأصبح شديد الظلمة.. فقلت للأستاذ «ضعدع» إنى انبعجت سروراً وامتناناً باستخدام لفظة «أبلج» -التى استخدمها المجاهد الكبير «مرسى»- ونقيضها «لجلج»، وهما لفظان يلغيان تشدّق المتفرنجين الأبالسة.. الذين يتشبّهون بكفار الغرب.. فيبادرونك بكلمة «بونجور» لتحية الصباح، وأولى بهم أن يحيوك بعبارة «أبلجت صباحاً»، لأن «أبلج» معناها صار «ذا بلوج»، ويقال أبلج الصبح.. و«أبلج الحق» و«أبلج إبلاجاً».. و«أبلج الشىء» بمعنى ظهر، ومؤنثها «بلجاء»، ومصدرها «إبلاج»، وماضيها «بلج»..

كما أثلج صدرى «فسجم» الدمع من عينى سجماً وسجوماً انتشار تلك اللفظة اللفظاء «اللجلج»، تعبيراً عن اللجلجة، بمعنى التردُّد والاختلاط.. فالإنسان يُلجلج لجلجة، فهو مُلجلج ولجلاج، وعلى باطل..

لكن الأستاذ «ضعدع» أعرب عن اغتمامه السوداوى، وهو يواجهنى بحزنه «الكظيم»، لأن الأسماء التى ترد فى الكتب المدرسية للنشء من سنابل أبنائنا الغضة أسماء إفرنجية مائعة شائنة رعناء رجراجة، فالقصة المقرّرة على الصف الخامس الابتدائى فى مادة اللغة العربية تحكى عن الأرنب «كوكى» الذى ركبه الغرور، فرفض اللعب مع أخويه «مونى» و«نانى»، فصحت «ياللعار»، واقترحت تغيير اسم «كوكى» إلى «حنظلة بن عبس».. واقترح زميلنا سكرتير الائتلاف الأستاذ التراثى العتيد.. السحيق الكهفاوى تغيير اسم «مونى».. إلى «الذبيانى بن الحطيئة».. و«نانى» إلى «حفصاء بنت المهلهل»..

وأسعدنى فى النهاية تحقيقنا الكثير من النجاحات من خلال هذا «الائتلاف»، مما أدى إلى ترشيحنا إلى الانضمام إلى اللجنة التى شكّلها «مركز تطوير المناهج» بوزارة التربية والتعليم، الذى وُضعت خطة عمله على الحذف والإقصاء والاختصار، وإلغاء الحشو والتكرار، مما دعا أحد الأعضاء «الحنجوريين» إلى السخرية من ذلك بقوله: ولماذا لا تسمونها إذاً لجنة «حذف المناهج».. إنه ليس بالحذف يتم تطوير المناهج.. لكن بتغيير المتخلف منها لتناسب العصر ومدنية الدولة والتقدم الحضارى.. كما ينبغى إصلاح التعليم القائم على التلقين والحفظ كالببغاوات دون اجتهاد فى الاستنتاج والاستنباط والبحث والمناقشة حول القضايا المثارة ومجابهة الجمود والاستسلام للمسلمات وقوالب التعبير المتحجّرة، مما يؤدى فى النهاية إلى إلغاء الرأى والرأى الآخر وتدمير حرية التعبير والقضاء على أى تطوير، وشيوع الاستبداد والإرهاب.

لكن هذا لم يمنع ذلك «الدعى المتحذلق» أن يُبدى سخطه من قصيدة فى منهج النصوص للصف الأول الثانوى، طالباً حذفها.. ومناسبة النص أن «عمرو بن هند»، ملك الحيرة الطاغية، قال لمن حوله: أتعلمون أحداً من العرب تأنف أمه من خدمة أمى؟!.. فقالوا «ليلى بنت المهلهل»، حيث إن ابنها «عمرو بن كلثوم» سيد قومه.. فأرسل الملك إلى «عمرو» وأمه يدعوهما إلى زيارته فى قصره.. وأوعز إلى والدته أن تستعين بـ«ليلى» فى قضاء أمر من الأمور، رغبة فى إذلالها.. فلما بدأ الحفل طلبت أم الملك من «ليلى» أن تناولها إناءً.. فقالت: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها.. فلما ألحت عليها صاحت: واذلاه.. فسمعها «عمرو بن كلثوم»، فقام على الفور وتناول سيفه وقتل الملك فى التو.. وعاد إلى الجزيرة وكتب معلقته..

وقال عضو اللجنة «المتشدّق» إنه سأل ابنته الطالبة المحتجة، التى أطلعته على النص: ما الذى يدل عليه هذا الموقف؟.. فأجابته: يدل على أن «عمرو بن كلثوم» راجل (فشار)، ده كلام أونطة، ماحصلش.. إزاى واحد يقتل الملك فى قصره وبين حراسه ويهرب من غير ما حد يمسكه؟.. هى سايبة؟.. فقال لها محاولاً مداراة ارتباكه: مش ده المهم.. المهم أن ده تأكيد أن الشاعر كان يمتاز بالشجاعة والإحساس بالقوة والتفاخر والكرامة، فقالت باستنكار: كرامة وشجاعة إيه؟.. ده راجل مجرم وإرهابى.. صحت فى غضب جامح: ويحك.. ما يهمنا أثر البيئة فى النص وتوضيح صورة من صور طغيان الملوك ورغبتهم فى إذلال القبائل.

بينما صاح الأستاذ «ضعدع» فى تأفُّف واستياء: كيف لم تلفت نظر ابنتك إلى الصور الجمالية فى الأبيات؟ لماذا لم تُحِلها إلى ذلك البيت الشعرى الرقيق:

نشق بها رؤوس القوم شقاً/ ونختلب الرقاب فتختلينا.

قال «الدعى المتداعى» فى امتعاض: قالت لى ابنتى مفيش صور جمالية.. شق رؤوس وتقطيع رقاب.. ودم.. وقتل.. وجثث.. ودمار وهلاك وخراب بيوت.. وتقول لى صور جمالية؟!.. ده سفاح من «داعش» ده، والا شاعر؟!

تصاعد الجدل وثار الأستاذ «ضعدع» ثورة عاتية، فشاركته غضبه وصرخت ساباً هذا «اللوذعى الذميم».. وتشابكنا بالأيدى والأكواب المتناثرة والكراسى الطائرة، وانتهى بنا الأمر فى قسم البوليس.