عقيدة الملك سلمان

لكل حاكم عقيدة سياسية، يحكم ويسوس بها مجتمعه، ويتعامل بها مع محيطه الإقليمى والدولى، ويحيّد بها خصومه أو يحاربهم أو يسالمهم.

وهذه العقيدة لا تنبت من فراغ ولا تختمر فى عقل الملك أو الرئيس، إلا عبر سنوات طويلة وعلوم متشعبة وتجارب كثيرة ونجاحات وإخفاقات عاشها أو عايشها أو تفاعل معها عن قُرب.

وكلما كان حظ الحاكم وفيراً من العلوم والتجارب السياسية والخبرات وعمقها وقبوله لتطوير عقله وملكاته، كانت عقيدته السياسية أقرب إلى النجاح والصواب.

وكلما كانت كل هذه الحظوظ قليلة، كانت عقيدته ضحلة وسطحية، ولجأ إلى نظرية التجربة والخطأ، وهى أفشل نظرية دمّرت الدول والممالك والإمبراطوريات.

والملكيات والدول الديمقراطية العريقة أعمق نُضجاً، وأكثر استقراراً فى عقيدة ملوكها وحكامها السياسيين، لتراكم الخبرات فيها، ولأن كل حاكم فيها ليس فيه النزق والطيش الذى يدفعه لهدم ما بناه سابقوه، بل البناء عليه.

والدول الديكتاتورية أو الجمهوريات غير الديمقراطية أقل استقراراً فى عقائدها السياسية، لكثرة الطيش والتهور فى حكامها الذين يقفزون إلى السلطة فجأة، ويريدون البقاء فيها أبد الدهر، فلا أدركت بلادهم حسنات الملكية ولا الجمهورية.

ورغم وجود المؤسسات فى كل الدول، فإن العقيدة السياسية للحاكم تلعب دوراً كبيراً فى صناعة القرار فى الدولة.

وقد كتب البعض عن عقيدة «أوباما» السياسية، ولخّصها بعضهم فى ما يلى:

1 - حقن دماء الجيش الأمريكى، وسحبه من أفغانستان والعراق ورفض الزج به فى الصراعات الدولية، إلا فى أضيق الحدود، فحينما ظهر تحدى «داعش» فى العراق وسوريا وغيرهما، أشار عليه مستشاروه بالتدخل، لكنه رفض لخلفيته الفكرية والثقافية من جهة، ولأنه جاء على وقع خسائر فادحة للجيش الأمريكى أيام بوش الابن، مع انهيار اقتصادى، نتيجة نفقات الحروب، فاكتفى «أوباما» فى كل تدخلاته الحربية الخارجية بالجراحات السريعة عن طريق الطائرات بدون طيار.

2 - الشعور بأن الشرق الأوسط لا فائدة منه ولا جدوى كثيرة من ورائه، ولا يمكن إصلاحه، حسب المفهوم الأمريكى، ولا ينفع الاستثمار فيه، لأنه يعنى الاستثمار فى الهواء، ولذلك ترك «أوباما» الشرق الأوسط يضرب بعضه بعضاً، ويُدمر بعضه بعضاً، وذهب إلى آسيا التى رآها واعدة سياسياً واقتصادياً وعلمياً.

3 - دعم الاقتصاد الأمريكى الذى كاد ينهار بمغامرات بوش الابن الحربية مع تحسين دخل المواطن الأمريكى، ولعل الخلفيات الثقافية والفكرية وانحداره من أسرة مسلمة عاش بعضها فى آسيا وأفريقيا، وصعوده على سدة الحكم فى أكبر أزمات أمريكا الأخلاقية والاقتصادية ساعده على ذلك.

أما عقيدة «عبدالناصر» و«السادات» و«مبارك» السياسية، فقد تحدث عنها الكثيرون.

ولكن ماذا عن عقيدة الملك سلمان (عاهل السعودية) السياسية؟ هذا هو مربط الفرس فى مقالنا اليوم، الذى يتلخص فى الآتى:

- تتميز بوضوح وجلاء العقيدة السياسية، وقد ظهرت مع الأيام الأولى لحكمه، ولعل الظروف الصعبة التى واكبت صعوده إلى سدة الحكم، هى التى ساعدت على تدشين عقيدته، فقد رأى وطنه منذ الأيام الأولى لحكمه محاصراً من كل الجهات بالمد الإيرانى السياسى والاقتصادى والفكرى والعسكرى، ورأى ما لم يره أى ملك سعودى.

فقد رأى الحوثيين قد استولوا تماماً على اليمن، وبلغ استهتارهم بالسعودية قيامهم بهجمات عليها، وتحولهم عن المذهب الزيدى الذى عاشوا فيه قروناً إلى «المذهب الإثنا عشرى»، وتغيير اسمهم من الحوثيين إلى «أنصار الله» ليكونوا نسخة من حزب الله فى كل شىء، عسكرياً وإعلامياً وثقافياً ومذهبياً، رغم أن اليمن يختلف عن لبنان، ورأى إيران تلتهم لبنان وسوريا والعراق، وتحيط ببلاده من كل ناحية، مع خُطط غربية جاهزة لتقسيم السعودية إلى خمس دول، بعد أن تم عملياً تقسيم سوريا والعراق تقسيماً لا رجعة فيه.

لقد وجد أن البقية الباقية من أمة العرب ستسقط، لقد عاش نفس اللحظة العصيبة التى عاشها الملك فهد، حينما رأى جيوش «صدام» تجتاح الكويت وتدق أبوابه، فلم يتردد لحظة فى استدعاء جيوش العالم كله لرده، لكن موقف الملك سلمان أصعب، إذ رأى انصراف الجميع عنه، ولا بد له أن يحارب بنفسه، لاستعادة الفناء الداخلى لوطنه، ويحمى أمنه القومى من العبث، فإذا بالملك العجوز يتخذ أخطر القرارات، ويكرر ما فعله الملك فيصل، حينما منع البترول عن الغرب أيام حرب أكتوبر.

لقد جاء الملك سلمان، وهو يرى سقوط بغداد، حاضرة العباسيين، فى أيدى الميليشيات، ودمشق، حاضرة الأمويين، كاللقمة السائغة لإيران، وما فعله «المالكى» بالعراق و«الحشد الشعبى»، ورأى أن الأمن القومى السعودى على المحك، والأمن القومى العربى قد ضاع إلى غير رجعة.

لم يتصور أحد أن يجرؤ الملك الجديد على الحرب سريعاً، ويحاول الحفاظ على تماسك العرب مجدداً، ويغير شكل الوضع السياسى والعسكرى فى اليمن سريعاً.

كانت قراراته الخطيرة انطلاقاً من شجاعته يوم تطوع فى الجيش المصرى لردع العدوان الثلاثى، ولعل زيارته إلى الأزهر رمز لإعادة الاعتبار إلى أعظم مؤسسة إسلامية وسطية، وإشارة إلى أن دعوة الأزهر ووسطيته أنفع من وجهة نظره، من دعوة «الوهابية» وأفكارها التى تعانى شيئاً من الانغلاق والجمود والتشدُّد الفقهى وضعف الانفتاح على العالم، وقد لا تصلح إلا فى أوساط ليست فيها تعدّدية عرقية أو مذهبية أو دينية، وكان غيره يرى أن تحل «الوهابية» محل الأزهر، لكن الزمان أثبت خطأ ذلك الافتراض.

كما يوضح نزوع الملك إلى الإسلام كمنهج حياة، وهو الذى قاد عملية كبرى لجمع التبرعات، لإغاثة أهل البوسنة والهرسك وإعادة بنائها، ومن عقيدة الملك السياسية أن التحالف المصرى - السعودى هو حجر الزاوية فى بناء العالم العربى من كل النواحى، وكان يتم بالتحالف مع الشام، فلما ضاعت سوريا، فلا مناص من دخول تركيا فى التحالف بديلاً عن سوريا، وأن الخلاف المصرى - التركى خلاف عارض ينبغى حله لمصلحة الجميع.

إن التحالف المصرى - السعودى يُعد البداية الحقيقية لعودة الوطن العربى مرة أخرى بعد أن كادت دوله تصبح سراباً، ولا يعنى ذلك عدم وجود الخلاف بين الدولتين، لكنه يعنى أن التحالف بينهما يستوعب مثل هذه الخلافات حول سوريا أو ليبيا أو إيران أو تركيا أو غيرها.