«الوطن» تكشف في تحقيق استقصائي: «ضباط شرطة» متورطون في استخدام «العصا السحرية»

كتب: محمد أبوضيف

«الوطن» تكشف في تحقيق استقصائي: «ضباط شرطة» متورطون في استخدام «العصا السحرية»

«الوطن» تكشف في تحقيق استقصائي: «ضباط شرطة» متورطون في استخدام «العصا السحرية»

فى ليلة صيفية دافئة، خرجت سيارة دفع رباعى من أحد الموانئ المصرية، وبداخلها مهندس بترول، وخبير أجنبى وبحوزته جهاز للكشف عن المعادن، كانت وجهتهما نحو مدينة الغردقة، للعمل لدى إحدى شركات التنقيب عن البترول، ولكن السيارة انحرفت نحو مدينة القصير التى تبعد عنها 180 كيلومتراً جنوباً، بناء على اتفاق بين المهندس المصرى، وشخص يدعى «محمد القناوى»، (اسم مستعار)، للقيام بمهمة سرية، داخل طريق وادى الحمامات الأثرى الواقع بين مدينتى قفط والقصير، كانت المهمة هى تحديد موقع إحدى المقابر الفرعونية تمهيداً للحفر وسرقتها، لكن خلافاً نشب حول تقسيم ما سيخرج أوقف الاتفاق، وعادت السيارة للشركة.

لم تكن الحكاية التى دارت فصولها منذ ما يقرب من عام هى الأخيرة من نوعها ولا الأولى، سبقتها حكايات أخرى منذ ثورة 25 يناير، كان «القناوى» الذى تحدث لمعد التحقيق، شريطة إخفاء هويته، مجرد وسيط بين أحد العاملين فى شركات التعدين والبترول والخبير الأجنبى الذى يدخل الجهاز بحوزته، وعصابات التنقيب عن الآثار التى وجدت فى أجهزة الكشف عن المعادن «عصا سحرية» وطريقاً سهلاً للوصول لمقابر الفراعنة فى الصحراء، التى يقول عنها القناوى إنها «تستطيع الوصول إلى عمق أكثر من 50 متراً تحت الأرض، ليحدد موقع المقبرة بدقة وما تحتويه».

فى قرية بنى موسى، بمحافظة المنيا، نجحت إحدى عصابات الآثار فى الوصول لعدد لا بأس به من التماثيل الذهبية والجرانيتية، بعد سرقة أكثر من مقبرة فرعونية من القرية الأثرية، بمساعدة أجهزة الكشف عن المعادن المتطورة، يقدر ثمنها بثلاثة ملايين جنيه، دخلت لمصر عن طريق التهريب من الحدود، وذلك حسبما أورده «محضر القبض عليهم فى يونيو 2014، وتفريغ الفيديوهات التى كانت على اللاب توب الخاص بالعصابة». من هنا كانت بداية الخيط لتحقيق استقصائى أجرته «الوطن» فى خمس محافظات مصرية، حول انتشار أجهزة الكشف عن المعادن «المحظور استخدامها» بين المواطنين فى ظل غياب الرقابة الأمنية على عمليات بيعها وتأجيرها، بجانب عدم وجود قوانين تحد من ذلك، واستخدامها فى نبش المقابر الفرعونية فى صعيد مصر، والتنقيب غير المشروع عن الذهب فى جبال البحر الأحمر.. التفاصيل فى السطور المقبلة.

 

- دراسة

فى دراسة أجراها باحثون أمريكيون فى جامعة «ألاباما»، ظهر أن عمليات التنقيب غير المشروع عن الآثار زادت فى مصر بصورة مطردة فى الفترة ما بعد ثورة 25 يناير 2011، وتشير الدراسة التى استخدم فيها الباحثون صوراً من الأقمار الصناعية، إلى أن نشاط عصابات النهب زاد، حيث أحصى الباحثون 38 ألف حفرة نهب سنوياً خلال الفترة من 2011 حتى 2013، ووثق الباحثون الذين زاروا المنطقة بأنفسهم خلال الدراسة أن ثلاثة أرباع الضرر الإجمالى حدث خلال تلك السنوات الثلاث، وهى نفس الفترة التى بدأت تنتشر فيها أجهزة الكشف عن المعادن فى ربوع مصر، حسبما ذكر متخصصون نوردهم فى نص التحقيق.

- جيولوجيون وخفراء

فى محافظة سوهاج، استغل أحد خفراء حراسة المواقع الأثرية رحيل البعثة الأثرية الأجنبية الموكل بحراستها إلى بلدها لقضاء إجازة بعد الثورة، وتسلل إلى داخل بيت الحفائر، الذى يحوى معداتها، ليسرق جهاز الكشف عن المعادن الخاص بهم، ويبدأ فى تأجيره لعصابات الآثار مقابل مبلغ مادى مناسب، مونيكا حنا، أستاذ علم المصريات بالجامعة الأمريكية كانت شاهد عيان على تلك الواقعة، حيث كانت تعمل مع البعثة، وتقول إن «الأجهزة كانت تدخل إلى البلاد قبل الثورة فى حوزة الخبراء والبعثات الأجنبية بعد تصريح أمنى، وتخرج معهم، وتقيد على «الباسبور» لكل منهم، ولكن بعد الثورة لم تخرج تلك الأجهزة، واستولت عليها عصابات الآثار لاستخدامها فى نبش القبور الفرعونية».بدأت تلك الأجهزة فى الانتشار بعد ثورة 25 يناير، فى ظل الفوضى التى عمت البلاد، وجدت فيه عصابات الآثار بديلاً لفشل الشيوخ والدجالين، الذين ساءت سمعتهم، قبل أن كانت تدخل البلاد قبل الثورة بحساب، وتحت رقابة الجهات الأمنية، وتكاد «حنا» تجزم بأن تلك الأجهزة أصبحت بعد الثورة فى يد جميع عصابات التنقيب عن الآثار.وتقول «حنا» إن تلك الأجهزة ساعدت فى زيادة سرقة المقابر الأثرية بصورة كبيرة، ووسعت من رقعة البحث عنها خارج نطاق المناطق المعروفة، خاصة فى صحراء الصعيد الذى لا يتمتع بأى حراسة، وبدأت بالظهور فى منطقة دهشور وجرزة وجبانة منف، وبالقرب من أهرام الجيزة وسقارة، وما لبثت أن انتشرت فى كافة أنحاء الجمهورية.«تورط جيولوجيين فى تلك العمليات ده شىء أكيد» تقول «حنا» مبررة ذلك بأن ما يخرج عن الجهاز بيانات وأرقام لا يمكن التعامل معها بسهولة، ولكن لا بد من وجود متخصص يحللها، ويساعد المنقبين فى تلك العمليات، وتؤكد أن لديها معلومات بوجود فنى بصحبة عصابات الآثار خلال العمل بصفة دائمة للتعامل مع الجهاز.تتبعت «الوطن» عمل الجهاز من القاهرة لأسوان، والتقى معد التحقيق عناصر فى عصابات التنقيب، بعد التنكر فى شخصية سارق آثار وجد شواهد مقبرة أثرية تحت منزله بمحافظة المنيا (إحدى أهم المحافظات التى تشهد عمليات تنقيب عن الآثار بصورة كبيرة) ويسعى للوصول إليها من خلال جهاز للكشف عن المعادن، ووثقت تلك اللقاءات بالصوت والصورة، لمعرفة كيفية دخول الجهاز ورصد عمليات البيع والشراء والتأجير.

البداية كانت من محافظة قنا، وفى مقهى مبنى من البوص والأخشاب المتهالكة، يستقر على بداية طريق صحراوى، يربط بين مدينة قفط الأثرية بمحافظة قنا، ومدينة القصير التى تقع على البحر الأحمر، كان اللقاء بأحد الخفراء العاملين بقطاع الآثار، تواصلت معه «الوطن» للوصول لأحد العاملين بالجهاز، يدعى «أحمد سعد» (وهو اسم مستعار)، وتحتفظ الوطن باسمه الحقيقى، يعمل خفيراً على أحد المواقع الأثرية منذ سبعة أعوام، قبلها كان يعمل مع عصابات الآثار فى نبش المقابر الفرعونية، وكشف أنه هو نفسه عمل بالجهاز لسنوات، لا يمتلكه، ولكنه كان بصحبة عصابات كانت تعمل به، حيث يحفظ المناطق الفرعونية عن ظهر قلب، ويعمل معهم كدليل للوصول لمقابر فرعونية بمدينة قفط، ويقول إن «صحراء قفط مليئة بالمقابر وبخاصة وادى الحمامات القريب من جلسته ولا يفتحها سوى الجهاز، هو الحل السحرى لفتح تلك المقابر».

تعاون «سعد» مع أحد العاملين فى شركات البترول أو التعدين لجلب الجهاز واستخدامه فى نبش المقابر الفرعونية، ولكن بعد فتح أولى تلك المقابر راح فى نوم عميق لساعات وأخذ يحلم بالثراء الذى ينتظره، وصحا على صوت قوات الشرطة تحيط بالمقبرة، وتستخرج محتوياتها، واكتشف أن ما حدث كان اتفاقاً أبرمه مهندس البترول مع أحد عناصر الشرطة، لكى يؤمنوا خروج محتويات المقبرة لصالحهم «ونطلع إحنا من المولد بلا حمص».

بشاربه الكث، وبشرته السمراء، جلس واضعاً ساقاً على ساق، يدخن النرجيلة، ويقول «سعد» بصوت باتر: «الجهاز مع ناس كتير من اللى شغالين فى الآثار فى قنا.. ناس تقيلة، أعضاء مجلس شعب ورجال أعمال»، ويشير إلى أن الجهاز يبدأ سعره من 100 ألف جنيه، ويأتى من الخارج بحوزة بعض العاملين فى قطاع البترول والخبراء الأجانب، خاصة من دبى والصين: «الجهاز ده بيجيب كل حاجة تحت الأرض، ويحدد لك اللى جوه المقبرة، سواء تماثيل دهب أو بازلت أو حجارة، عشان نقدر نشوف المقبرة تسوى ولا ما تسواش».وتوفر تلك الأجهزة من الوقت والجهد على عصابات الآثار بنسبة 60%، حسب تقدير وهيبة صالح، كبير مفتشى الآثار بمنطقة دهشور، التى لا تستطيع التعامل مع أجهزة الكشف عن المعادن ولا استخدامها، رغم عملها فى التنقيب عن الآثار لأكثر من عشرين عاماً، ولا توفر لها وزارة الآثار مثلها، وتقول إنها «تستعين قبل التنقيب بهيئة البحث والمسح الجيولوجى التابعة لوزارة الدفاع المصرية، وبعض التقارير الصادرة من البعثات التى تأتى من الخارج لتحديد مواقع الحفر ومواقع المقابر المراد العمل عليها، لما لديهم من أجهزة كشف معادن وفراغات متطورة»، وتتابع: «ما تمتلكه عصابات التنقيب عن الآثار من أجهزة لا يتوافر لوزارة الآثار نفسها ولا للعاملين بها».


مواضيع متعلقة