شلاتين وحلايب.. نظرة ومدد

ناهد صلاح

ناهد صلاح

كاتب صحفي

«شلاتين مش منفى»، قالتها بعتاب إحدى فتيات مشغل السيدات للحرف اليدوية بشلاتين؛ ثم أشارت إلى كل امرأة وكأنها تحصيهن وهن يغزلن الخوص الملون الذى ينافس الألوان الزاهية لملابسهن ويرفضن التقاط صورة تُشيئهن أو تخزنهن بلا عاطفة كحجر لـ«الفُرجة»، وواصلت الفتاة الإشارة بيدها إلى النافذة المفتوحة على البراح، وواصلت: «دى بلدنا مش منفى عشان كل شوية نسمع فى فيلم أو مسلسل تهديد بيقول: لو ما شفتش شغلك كويس هننفيك فى حلايب وشلاتين»، الفتاة الغاضبة اختصرت علىَّ كل طرق الإجابة عن سؤال: ما الذى نفعله هنا؟ وكان ذلك من تدابير الإعلامية منى سلمان التى أرادت أن تؤسس فى برنامجها «مصر X يوم» الذى قدمته على شاشة دريم لأسلوبها الخاص فى التحرر من جمود الاستوديو والخروج إلى الناس والتواصل معهم، محاولة للمشاركة فى بناء حاضرنا المكسور، فخرجنا إلى مثلث شلاتين وأبورماد وحلايب حتى لا يتحول إلى منفى أو فضاء مهمل على خارطة الوطن، وصارت منى سلمان أول إعلامية تطأ هذه المنطقة مع فريقها بأول كاميرا لتليفزيون مصرى فى مثل هذه الأيام من العام 2014، بعدها توالت الزيارات، وكنت قد قرأت كتاب «فى بلاد العبابدة» للدكتور سمير خواسك، فكان سبباً آخر يحملنى إلى مثلث الذهب، كما رسمه الجيولوجى المغامر فى كتاب صغير نال عنه جائزة الدولة التشجيعية فى أدب الرحلات، ونلت أنا معرفة تلامس التاريخ والجغرافيا من خلال رجل قضى مع رفاقه، كما قال فى إهداء كتابه: «سنى عمرهم فى مجاهل الصحراء، بعيداً عن المدينة والأضواء، يعملون بإيمان وصمت فى اكتشاف الأرض المجهولة»، وهكذا تعددت الأسباب لزيارة واحدة لجنوبنا الشرقى كشفت سر غضب فتاة شلاتين وتحسسها من جملة ترددت فى الدراما ولم تر فى بلادها غير أنها منفى، ولم ير مرددوها وكاتبوها البركة فيها، لم يشربوا «الجَبَنة» فى ضل الضحاوية كما تقول أغنيتهم وهى تصف فنجان منها «يساوى الدنيا بحالها»، لم يعرفوا قبائل البجا أو العبابدة أو البشارية، لم يحسبوها فقط إلا بالكيلومترات من العاصمة المكدسة، 1300 كيلو، فلم يرشدهم أحد إلى طبيعة ممتدة من البحر إلى الجزر الرملية إلى المحميات الطبيعية إلى الوديان تلتف حول الجبال على تنوعها المعدنى: ذهب ومنجنيز وجرانيت وماغنسيوم وحديد وبترول، ثروة سياحية ومعدنية وسمكية إن استغلت لأصبحت أغنى بقاع الأرض كما قال لى أحد مشايخ شلاتين، مشيراً إلى أنها قادرة على أن تحدث تغيراً قوياً فى الاقتصاد المصرى، كل هذه الثروات ولا يراها صانعو الدراما سوى قطعة صحراوية على الأطراف؛ يخشى كثير من الأطباء والمدرسين العمل فيها، والسبب ليس جغرافياً فقط؛ وإنما وراء الجغرافيا التهميش الذى ينتج عنه بشر يسكنون فى منازل من الخشب والصفيح بكهرباء بسيطة تٌقطع يومياً فى الصيف، ومياه غير صالحة للاستخدام الآدمى، وخدمات صحية شبه معدومة، ومدارس حدث عنها ولا حرج، وشباب «ما يقدرش يمتلك أرض»، كما قالها أحدهم، ولا يستطيع استخراج أوراق ثبوتية، شهادات ميلاد أو الرقم القومى.

واليوم، وبعد مرور عامين على هذه الزيارة، هل تغير الوضع؟ الإجابة: قليلاً؛ وهذا القليل يظهر فى تقوية شبكة الاتصالات، كما قال لى البعض أو فى مستشفى تحت الإنشاء لا يغير الحال دون تعزيز أكثر للوجود الثقافى والإعلامى يمهد لتغيير أكبر، وإلا سيظل المثلث فى البرارى لا يمتثل لأحلامنا فى المعجزة التى تصنع تحولاً فى اقتصادنا يتغول الدولار أمام الجنيه، ولا تتحقق فيه رغبات أهله فى حياة آدمية بدلاً من الوقوف على أبواب حياة مهجورة، أو كما قصة «كرار»، من صفحة حلايب شلاتين أبورماد الفيس بوكية، صبى فى الرابعة عشرة محروم من كل الحقوق لأنه لا يحمل أى إثبات هوية، لأنه عاش فى الصحراء حتى توفى والده من 3 سنوات، كرار ليس وحده؛ فهناك عشرات الأسر تعانى نفس المشكلة وتفاقماتها، تصرخ: «نظرة ومدد»، وإلا سوف تستمر الفزورة على غرار أغنيتهم التراثية: الصندوق عند الدكان/ والدكان عايز مفتاح/ والمفتاح عند الحداد/ والحداد عايز فلوس و.. و..