سئمنا من لغة الشجب والاحتجاج والاستنكار لحوادث الإرهاب البغيضة، بل إننا نشجب ونحتج ونستنكر هذه اللغة كرد فعل علماء الدين وأصحاب الفكر والقلم، كيف يكون الحدث هو إزهاق أرواح بغير جريرة وسيلان دماء أبرياء على وجه الغيلة وإحداث فزع الحروب الميدانية فى داخل الحياة المدنية الآمنة ويكون رد الفعل مجرد شجب واحتجاج واستنكار، فما أرخص الإنسان عندهم الذى اكتفوا عند هدمه بالشجب، وما أغفلهم عن رسالتهم التى اختصروها فى الاحتجاج، وما أبعدهم عن واجباتهم التى توهموا أداءها بالاستنكار.
إذا لم تكن كرامة الإنسان وحمايته هى شغلهم الشاغل فما فائدة حظوتهم بلقب الفقهاء والمفكرين والعلماء؟ ألم يأمر الله عز وجل الملائكة الأطهار الذين «لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ» (التحريم: 6) أن تسجد تكريماً لآدم أبى البشر عليه السلام لمجرد صورته الآدمية وصفته الإنسانية قبل أن يفعل حسنة أو سيئة، كما قال تعالى: «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» (الحجر: 29، ص: 7)، ألم يقض الله فى كتابه أزلاً: «أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً» (المائدة: 32)، ألم ينه الله عز وجل عن قتل النفس الإنسانية التى خلقها الله بريئة وأمر بملاحقة الجانى عليها وتعويض ورثة المجنى عليه فى غير آية ومنها قوله تعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلَا يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً» (الإسراء: 33)، ألم يغضب الله على من تجاسر على النفس الإنسانية بقتلها عدواناً ولعنه وتوعده بالخلود فى جهنم كما قال سبحانه: «وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤه جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً» (الإسراء: 93)، ألم يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن القتل والعدوان من الكبائر فيما أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر فقال: «الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين»، كما أخبرنا النبى صلى الله عليه وسلم عن قيمة الآدمى فى خلق الله وحرمته فى دينه فيما أوردته كتب التراث فى التفسير والأصول والفقه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «الآدمى بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب»، وأخرج الطبرانى والبيهقى عن ابن عباس، وأخرجه الترمذى بسند حسن عن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم نظر إلى الكعبة فقال: «لا إله إلا الله - وفى رواية: مرحباً بك من بيت - ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة منك، إن الله حرم منك واحدة، وحرم من المؤمن ثلاثاً دمه وماله وأن يظن به السوء».
وإذا أقر علماء الدين والمفكرون الإنسانيون بمسئوليتهم تجاه حماية الإنسان وكرامته فإن تلك المسئولية توجب عليهم دراسة ظاهرة الإرهاب المعاصرة وتأصيلها التاريخى والبحث عن الأسباب التى تجعل الشباب فى مقتبل أعمارهم يجودون بأجسادهم جميلة الصورة سوية الخلقة عفية البنية، ويدفعون بنفوسهم التى هى أغلى ما يمتلكون، وأرواحهم التى هى أعز ما يحوزون إلى جحيم التفخيخ ونار التفجير، فلا يصدق أحد أن هذا الجود بالأجساد وتلك التضحية بالأرواح فى مقابل حفنات من الأموال مهما بلغت، أو أن أصحابها مختلون عقلياً أو مرضى نفسياً، فقد كشف الإرهاب الذى وقع مساء الجمعة 13 نوفمير 2015م فى باريس عن داهية المجرمين وخبث تعاملهم مع الأمن الوطنى الفرنسى بما يؤكد تحليهم بضبط النفس وإتقان إدارة إرهابهم كأشد ما تدير المؤسسات العسكرية النظامية، مما يؤكد أنهم أسوياء الخلقة والعقل، ولا يعوزهم مال ولا زواج إلا أن ثمة عقيدة مغلوطة قد تملكتهم، أو ثمة أفكاراً عدائية قد تلبستهم، أو ثمة شعوراً بالمظلومية قد حرق قلوبهم فأحرقوا قلوب خصومهم الأبرياء بإرهابهم الفاجر مع سبق الإصرار والترصد.
هنا يجب أن نعترف بنجاح أساتذتهم الشياطين فى وضع منهج مقنع لقلب الحقائق الذى يجعل الظالم مظلوماً والفساد إصلاحاً والخراب إعماراً والانتحار شهادة والعدوان طاعة لله، وقد حذرنا الله تعالى من هؤلاء المخادعين فى قوله سبحانه: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ» (البقرة: 11، 12)، كما حذرنا القرآن الكريم من الغرور بزينة منطقهم الخبيث فى قوله سبحانه: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ» (البقرة: 204، 205)، وإذا اعترفنا بنجاح دعاة الفتنة وأساتذة الشر وشيوخ الدمار فى وضع منهج الإرهاب المعاصر بمنطق عملى قابل للانتشار فى بلاد المسلمين وبلاد غير المسلمين، ويتسع لعقول العرب والأوروبيين على السواء فلا بد أن نعترف بالتوازى على تقصير إن لم يكن فشل دعاة الخير وأساتذة السلام وشيوخ الإصلاح لعدم تتبعهم شبهات الفكر المنحرف بالتفنيد وعدم وضعهم لمنهج بناء الإنسان المعاصر وحمايته بمنطق عملى قابل للانتشار شرقاً وغرباً ومتسع لعقول العرب والعجم.
وقد اعتدنا الزج باسم الإسلام فى أعقاب حوادث الإرهاب المعاصر محلياً ودولياً، ولا ننكر مشاركة شباب يحملون أسماء مسلمين فى عمليات التنفيذ الانتحارى أو التفجيرى، كما لا نتغافل إعلان تنظيمات تصف نفسها بالإسلامية مسئوليتها عن نجاح العملية الإرهابية، وكل هذا يحرج علماء الدين والمفكرين الإنسانيين ويمنع عنهم قبول شجبهم أو احتجاجهم أو استنكارهم عقب كل حادث إرهابى إلا أن يسهروا ليلهم وأن يظمأوا نهارهم لإعداد وتقديم أطروحات فقهية عملية تشبع عقول الشباب وتطمئن قلوبهم وتحملهم مسئولية إعمار الأرض وبنائها فى ظل قدر محتوم يستوجب عليهم التعاون مع الآخر وليس فقط التعايش معه، ويلزمهم بابتكار طرق سلمية لحل النزاعات بعيداً عن الحروب المزهقة للأرواح التى خلقها الله تعالى لتعيش آجالها وجعل مشروعية القتال خلافاً لهذا الأصل وفقاً لمقتضيات الضرورة، فإذا تمكن الفقهاء من إيجاد صيغ عملية موضوعية لنظام الحكم العادل فإنه سيقلل كثيراً من عنف المواجهات بين البشر، هذا بالإضافة إلى وجوب تفنيدهم لشبهات مؤسسى الفكر الإرهابى باسم الدين والمعتمدة على استعطاف الشباب لربهم واستجلاب نخوتهم لدينهم فيما رفعوا شعاره كذباً من مظلومية الإسلام وهزيمة الله فى الأرض، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكأن من يجود بنفسه تفخيخاً ويلقى بيده إلى التهلكة سيعيد إلى الإسلام العزة وإلى الله تعالى النصر، ألم يسألوا أنفسهم من الذى يمنح العزة والنصر لمن؟ البشر هم الذين يمنحون العزة للإسلام أم أن الإسلام هو الذى يمنح العزة لمن آمن به كما قال تعالى: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ» (المنافقون: 8)، البشر هم الذين يمنحون النصر لله سبحانه، أم أن الله تعالى هو الذى يمنح النصر للبشر، كما قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُ الْحَمِيدُ» (فاطر: 15)، أما قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ» (محمد: 7)، فلا يعنى أن الله تعالى مهزوم -والعياذ بالله- إذ كيف يمنح المهزوم النصر لغيره، وإنما يعنى أن من يخلص فى عمله ويتقنه فإن الله سينصره فى هذا العمل الذى أخلص فيه؛ لأنه نصر عمله باتخاذ الأسباب فيه كما ذكر المفسرون، حتى قال ابن كثير: لأن الجزاء من جنس العمل، ومنه قوله تعالى: «وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُره» (الحج: 40).