الغارات الإسرائيلية التى قصفت منذ أيام بثلاث طائرات مقاتلة أهدافاً ضمنها منظومة الدفاع الجوى المخصّصة لحماية منشأة «نطنز» النووية فى مدينة أصفهان الإيرانية. إسرائيل اختارت تاريخ الضربة يوم عيد ميلاد مرشد إيران على خامنئى، فى رسالة لها دلالتها للشعب الإيرانى. القصف حسم الإجابة عن سيناريوهات لا حصر لها حول الرد الإسرائيلى على المسيرات والصواريخ الباليستية التى أطلقت لأول مرة من طهران على إسرائيل. صحيح أن الأولى استخدمت فى عبور أسلحة هجماتها أجواء دول تمتلك إيران عليها سيطرة سياسية وأمنية عبر أذرع وميليشيات لها فى هذه الدول، لكن هذا لا ينفى أن المواجهة حوّلت الصراع إلى صيغة المباشرة. مع حقيقة فشل الضربة إصابة وتدمير أهداف عسكرية استراتيجية فى إسرائيل، فإن محاولة فهم نتائجها لا تنفصل عن العقيدة الدينية الموجّهة لمسارات السياسة الإيرانية.. «التقية»، أو إظهار ما ليس فى الباطن.
مخطئ من يتصور أن إيران ستُخطط فى مناوشاتها التى لا تنقطع مع إسرائيل لتصاعد يصل إلى انفجار الوضع، سواء كانت المواجهات العسكرية مباشرة أو عبر وكلائها.. التصعيد لا يدخل ضمن أجندات الأطراف الثلاثة.. أمريكا، إسرائيل، إيران. فى إطار مبدأ «التقية»، أرادت إيران كسر الهاجس التاريخى الحاكم للشخصية الإسرائيلية منذ قيام دولتهم المزعومة.. هاجس الأمن. إيران لمست وتر عقيدة صهيونية راسخة حين انتهكت عقدة الأمن ونجحت فى إثارة الهلع داخل الشارع الإسرائيلى، حتى إن جاءت الضربات مخيّبة للآمال، نتيجة عدم إحداثها أضراراً وفق المفهوم العسكرى لأى مواجهة بين دولتين.
تاريخ الصراعات الإيرانية، باستثناء الحرب على العراق بين عامى 1980 - 1988، يشير إلى أن طبيعة مواجهاتها كانت تتم خدمة لمصالحها وتعزيز نفوذها إقليمياً وعربياً، مع الحرص على اختيار مواقع المواجهات خارج حدود أراضيها، لكن ليس بمعزل عن المشروع الدينى الحاكم. على الطرف الآخر، لم تتأخر الطوائف والأحزاب اليمينية المتطرّفة داخل إسرائيل عن إضفاء الشعارات الدينية رغم محدودية تأثير إضفاء هذه الصبغة على العمليات العسكرية.
واقع الأمر أن خيبة الأمل فى نتائج الضربة الإيرانية كانت متوقعة ومشروعة رغم التضارُب بين طرفى الصراع. طرف إسرائيلى بكل تاريخه الحافل بالوحشية والردود الانتقامية الشرسة، مُستخدماً كل ما تمدّه به أمريكا ودول أوروبا من أسلحة، بالإضافة إلى امتلاك قاعدة معلومات استخبارية مكنت لإسرائيل اصطياد عدة قادة بارزين ممن يمثلون أذرع أحزاب وميليشيات فى عدة دول عربية. على الطرف الآخر يهيمن على طبيعة التخطيط الإيرانى حسابات النظام الدينى - السياسى، الذى لا يستبعد الرد، ولو عبر تحقيق أهداف رمزية قد لا تُسجل نقاطاً فى قواعد المواجهات العسكرية أو تجد صدى مُرضياً لدى المتابعين لتاريخ هذا الصراع بحكم عدم إحداثها خسائر فى الأرواح أو تدمير أهداف عسكرية إسرائيلية.
الرد الإسرائيلى على الهجوم الإيرانى جاء مطابقاً لأغلب التوقعات حول طبيعته المحدودة، وحدث فعلاً استهداف لمواقع عسكرية استراتيجية فى إيران، ما واءم الاتفاق داخل إسرائيل بين الطرفين السياسى والأمنى على ضرورة الرد. المثير للدهشة أن مجالس الحرب الإسرائيلية التى لا تتوقف عن الانعقاد، خصوصاً مع تهديد إيران بأنها سترد بقوة والتلويح بأسلحة لم تستخدمها مطلقاً ضد أى هجوم إسرائيلى، هذه المجالس لا تقدّم رداً على السؤال الأهم: إلى متى ستتحمل المنطقة توسّع هذا التصاعد مع تبادل الهجمات بين الطرفين دون أى مؤشرات على التزام أىٍّ منهما بضبط النفس حتى تتحول إلى حرب شاملة لا يرغب بها الأمريكى ولا الإيرانى، خصوصاً فى ظل تراجع مؤشرات حسم وقف إطلاق النار فى غزة أو الوصول إلى أى اتفاق ملزم.
هناك مؤشرات تثير المخاوف من خروج قواعد «المحدودية» عن الحسابات والمسارات المحسوبة وإشعال المنطقة بمزيد من التصعيد فى طبيعة المواجهات العسكرية.. إذ يبقى تهديد خروج شبح الحرب الإقليمية من القمقم طالما لم يعد هناك توقيت ولا حدود تحكم هذه المواجهات، رغم أن هذه الحرب ليست فى مصلحة أى طرف، تحديداً القوى الدولية ذات التأثير، مثل الصين وروسيا، مما يطرح استمرار تبادل الضربات لأسابيع أو أشهر، خصوصاً أن إيران أصبحت فى وضع من الصعب ألا ترد فيه على الهجمات الإسرائيلية على أهدافها داخل وخارج إيران بعدما تحدّى «نتنياهو» صورتها فى الداخل الإيرانى وعلى المستوى الإقليمى وتحدّى هيبتها.
الصراع الإيرانى - الإسرائيلى أصبح مكشوفاً ومباشراً، تجاوز مرحلة الاعتماد -فى ما يخصّ أمن إيران- على الميليشيات الولائية التابعة لها فى عدة دول عربية، وإن لم تستبعدها إسرائيل كأرض للمواجهة، كما حدث منذ أيام عند قصف أحد مقرات الحشد الشعبى شمال محافظة بابل العراقية.
أخيراً.. يبقى السيناريو الأكثر ترجيحاً هو توقّف الضربات العسكرية المباشرة بين إسرائيل وإيران خلال الفترة الحالية، مع استمرار العمليات التى يقوم بها وكلاء طهران فى المنطقة العربية.