الدول مثل البشر.. والبشر ثلاثة أصناف لا رابع لهم: عقلاء، وطائشون، وبَين بَين!
بالنظر إلى الدوائر المحيطة بمصر، القريبة والبعيدة، سنجد أن السمة الغالبة المشتركة التى تجمع بينها هى الطيش السياسى والدينى والأيديولوجى الذى أنجم -ولا يزال تنجم عنه- صراعات كبرى مستمرة لا تنتهى.. صراعات على الماضى وأخرى على الحاضر والمستقبل، تسببت فى أوضاع شديدة الاضطراب وتُنذر بحالة انفجار هائل لا مثيل له.
لا يحتاج المرء إلى أن يكون دارساً للعلوم السياسية أو خبيراً فى النظريات الاستراتيجية ليقرأ هذا الواقع التعيس الذى نعيشه اليوم.. فهو واقع معلوم بالضرورة للجميع، نصحو كل صباح لنقرأ أحداثه فى الصحف والمواقع الإخبارية، ونودعه كل مساء بعد أن شاهدناه بثاً حياً بالصوت والصورة على شاشات التليفزيون ووكالات الأنباء وصفحات التواصل الاجتماعى.
نيران مشتعلة على كل الجبهات، مواجهات مسلحة فى كل الأنحاء، صراعات على مقاليد الحكم والثروات، خرائط تتآكل وسط حرائق سياسية ودينية واقتصادية لا تجد من يطفئها. وشعوب لا حيلة لها تقف أمام كل ذلك على حافة الموت الذى يلتهم كل يوم مئات وآلاف وملايين من الأبرياء الذين لا ذنب لهم، نساءً ورجالاً، أطفالاً وشيوخاً، بينما العالم المتحضر الذى يملك العلم والثروة والسلاح ومفاتيح المنظمات والصناديق الدولية يقف متفرجاً.. بل مشاركاً فاعلاً فى الجريمة مع سبق الإصرار والترصد والتدبير فى أحيانٍ كثيرة.
لكل شخص قدره، وللدول أيضاً أقدراها.
ومن قدر الدولة المصرية أن تتوسط هذا الإقليم الطائش، بكل ما فيه من وحشة، وكل ما عليه من أخطار!
(1) الإرهاب
مع تنامى موجات الإرهاب الحديث على مدار السنوات العشر الماضية، ويزيد، حذّرت مصر من خطورة تلك الظاهرة، وحذرت من خطورة التماهى معها أو التعامى عنها أو التغطية عليها تحت أى مبررات سياسية أو دينية أو حقوقية. لم يقتصر الموقف المصرى على التحذير فحسب، بل قدمت مصر استراتيجية متكاملة للحرب على الإرهاب وقطع جذوره ونوافذه وطرق إمداده وتمويله ودعمه وبيئته الراعية. كانت الدولة المصرية سبّاقة فى رؤيتها، وسبّاقة فى إجراءاتها، وسبّاقة فى استراتيجيتها المتكاملة لإنهاء حالة الميليشيات والجماعات والتنظيمات المتطرفة، ليس فى مصر وحدها، بل فى الإقليم كله.
أدركت مصر باكراً.. وأدرك الآخرون فى الوقت الضائع!
(2) الدولة الوطنية
خلال سنوات الفوضى والسيولة التى ضربت الإقليم شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، حرصت مصر -ممثلة فى قيادتها السياسية ومؤسساتها وأجهزتها- على استخدام مفهوم «الدولة الوطنية» فى التعاطى مع جميع قضايا الإقليم. تكرار التأكيد على المفهوم فى كل مناسبة كان يحمل دلالة مهمة ويعكس سياسات راسخة.
دافعت مصر عن بقاء هذه «الدولة الوطنية» أياً كان اسمها أو علمها أو موقعها الجغرافى، دافعت عن ضرورة الحفاظ على وحدة أراضيها واستقلال سلطتها السياسية وتماسك قوتها العسكرية ومؤسساتها الرسمية، حتى لا ينفتح باب الجحيم أمام حاملى السلاح من كل طائفة أو عرق أو جماعة أو تنظيم؛ فينفرط العقد وتضيع البلاد.
عبّرت مصر عن رؤيتها وموقفها الثابتين تجاه الملف السورى، والملف العراقى، والملف الليبى، والملف اليمنى، والملف السودانى، وغيرها من الملفات المفتوحة داخل الإقليم الطائش. لم تكِل بمكيالين، ولم تنطق هنا وتصمت هناك، ولم تتغير مواقفها حسب تغير مصالحها أبداً، أياً كانت الخريطة وأياً كان العَلم.
أدركت مصر باكراً.. وأدرك الآخرون فى الوقت الضائع!
(3) فلسطين
مع اندلاع أحداث السابع من أكتوبر 2023، وما تلاها من عدوان إسرائيلى غاشم وجرائم حرب غير مسبوقة بحق الشعب الفلسطينى، تحديداً فى قطاع غزة، لم يكن الموقف المصرى موقفاً جزئياً، ولم تنظر الدولة المصرية بعين واحدة كما نظر آخرون، ولم تلجأ للشعارات العاطفية والخطابات الجوفاء.
بل طرحت منذ اليوم الأول رؤيتها الرشيدة المتكاملة لإنهاء الصراع بحلول دائمة وشاملة تبدأ بوقف إطلاق النار فوراً، والسماح بالنفاذ الكامل والآمن للمساعدات الإنسانية، وإحياء مسار المفاوضات من أجل الوصول إلى حل الدولتين، وهو الحل الوحيد الذى يضمن السلام والأمن لكل الأطراف.
حذرت مصر من اليوم الأول من مخطط التهجير القسرى للشعب الفلسطينى باعتباره تصفية للقضية الفلسطينية وإرجاء غير عادل لصراع لن يُحل بهذه الطريقة المتوحشة والعمياء. وحذرت أيضاً من أن استمرار التصعيد يُنذر باتساع دائرة الصراع فى المنطقة، وهو ما يحدث اليوم بالحرف الواحد.
أدركت مصر باكراً.. وأدرك الآخرون فى الوقت الضائع!
فى كل هذه القضايا، وفى غيرها، لم تكن الدولة المصرية تقرأ الغيب، ولا تنجّم بما هو غير منظور، لكنها كانت تنطق بلسان حق، انطلاقاً من مسئولية تاريخية تدركها جيداً، وانطلاقاً كذلك من سياسات استراتيجية وسياسية راسخة وحكيمة لمؤسسات وطنية واعية تدافع عن مصالحها ولا تعتدى على مصالح الآخرين، وتسعى جاهدة لغلق أبواب الفتنة حولها وغلق أبواب الفتنة حول الآخرين.
فى كل مرة، سعت الدولة المصرية، ولا تزال تسعى، لإطفاء الحرائق.. بينما الطائشون يسكبون المزيد من براميل الوقود، بجهل منهم، أو بسوء نيّة!
حمى الله مصر.. الدولة العاقلة وسط هذا الإقليم الطائش.
وحمى الله أهلها وجيشها وقيادتها الوطنية.