كشفت الأزمة الأخيرة بين الصحف ووزارة الداخلية حول ملف تحقيق صحفى يرصد الانتهاكات التى يقوم بها بعض أفراد الشرطة، ثم صدور بيان من الوزارة يرفض كل هذه الانتهاكات ويشكك فى اتجاهات الصحف ونواياها، ويتحدث عن الاصطفاف الوطنى، ثم يتبع ذلك ببلاغ يقدّم إلى النيابة العامة ضد ستة صحفيين، كشفت هذه الأزمة عن ضيق لدى الوزارة فى النقد، ويطرح تساؤلاً حول حدود الإعلام والصحافة فى نقد السلطة العامة، وكشف مناطق الخلل والزلل، وتسليط الضوء على الانتهاكات ضد المواطنين وحقوقهم وحرياتهم، هل المطلوب هو إسكات كل صوت معارض وأن يتحدث الإعلام والصحافة لغة واحدة، هل مفهوم الاصطفاف هو إلغاء التعدُّدية، أم أن ذلك يشكل خطراً جوهرياً على الديمقراطية ويخلق بيئة مناسبة للفساد والتسلط.
يجب التذكير مرة أخرى بأنه كان من أهم أسباب الثورة والغضب لدى الشعب المصرى، الانتهاكات التى ارتكبت ضد المواطنين وإساءة استخدام قانون الطوارئ، باعتقال المواطنين اعتقالاً متكرراً واستشراء التعذيب فى الأقسام، وانتهى الأمر بشبه قطيعة بين المواطنين والداخلية، وبذلت الوزارة جهوداً مكثفة لتغيّر هذه الصورة النمطية، وأذكر هنا الدورات التدريبية للضباط، ثم مدونة السلوك التى تشرح مبادئ حقوق الإنسان التى تحكم ضابط الشرطة تجاه المواطنين، وحقوق الضابط وواجباته المهنية، ثم إنشاء إدارة حقوق الإنسان التى تطورت إلى قطاع يرأسه مساعد للوزير، وتم خلق إدارة أيضاً للشرطة المجتمعية لتعزيز العلاقة مع المجتمع المحلى الذى تعمل فيه الشرطة.
وخلال هذه الفترة سقط شهداء من وزارة الداخلية من ضباط وجنود، دفاعاً عن الواجب والوطن فى حرب ضروس ضد الإرهاب، وكان هذا ولا يزال، محل تقدير واحترام من المجتمع، لكن لا يمنع هذا من إدانة أى انتهاك يُرتكب ضد المواطنين، فلا توجد شرطة فى العالم محصّنة من ارتكاب مثل هذه التجاوزات، ولنتابع جميعاً الأزمة فى أمريكا بين مجتمع الأمريكيين من أصول أفريقية والشرطة، على خلفية مقتل مواطن على يد أحد أفراد الشرطة، إنما المهم أن يكون هناك آليات الإنصاف، وألا تحمى الوزارة أى منتهك لحقوق الإنسان، وهنا من المهم أن نذكر أيضاً حادث مقتل شيماء الصباغ، وكيف أن الوزارة فى الحقيقة لم تكن تنوى الكشف عن القاتل، بل أصدرت بيانات لتنفى المسئولية، إلا أن إصرار القوى السياسية والتزام الرئيس بتقديم مرتكب الجريمة إلى العدالة هو الذى أدى إلى القبض على القاتل، وكان من القوة المكلفة بفض التظاهر السلمى لحزب التحالف الشعبى.
صحيح كان الملف الصحفى الذى تناول الانتهاكات متضمناً حالات أغلبها تم التحقيق فيها من قِبَل النيابة العامة، بل أحيل المتهمون فيها إلى المحاكمة، والبعض قُبض عليه فعلاً، ولو تعاملت الوزارة بالتمسُّك بحقها فى الرد لأخذت ثلاث صفحات ترد فيها على هذا الملف، لكن التقدّم ببلاغ للنيابة كان الطريق الخطأ من قِبَل وزارة تملك من الإمكانيات الإعلامية ما يمكنها من الرد وتوضيح الصورة.
ما يجب أن ندركه أن الإعلام يلعب دوراً مهماً فى كشف الفساد والانتهاكات، لتتمكن الحكومة من ملاحقة مرتكبى هذه الجرائم وتعزيز وجودها بتخلصها من هذه الأدران التى تلوث ثوبها وثوب أى حكومة، وتحتاج الداخلية إلى الحكمة فى التعامل مع النقد وإدراك أن النقد المباح للصحافة والإعلام لا حدود له، طالما كان بحسن نية ويستهدف الصالح العام، والاصطفاف الوطنى لا يلغى التعددية، وحق النقد والنقد الذاتى هو حق عام لا يرد عليه التقيد إلا فى حدود ضيقة تعارفت عليها النظم الديمقراطية.