قالها شوبنهور قديماً: «كل الفنون تطمح لأن تكون مثل الموسيقى».
وهذا الطموح بكل أسف ممتنع هو الآخر عن فيلم «ريش».
فشخصياً لا يمكننى بحال أن أشاهده مرتين، فصانعوه عجزوا عن الغناء، فصار منتجهم الفنى فارغاً من كل أنواع الموسيقى، تلك التى تطمح كل الفنون لأن تكون مثلها، وذلك لأن الموسيقى هى التى يحج إليها المتلقى مرتين وثلاثاً وعشراً.
فإذا نجح إذاً فن من الفنون أن يحقق ذلك الهدف لديك فقد أصبحت بالنسبة له موسيقاراً يغنيه وليس مجرد مشاهد يتلقاه، وبالكاد يناجيه.
تعلمنا عند مشاهدة أى فيلم سينمائى درامى أن نبحث عن الحدوتة، وكذلك عن الحدث، وفى العادة يكون أمر الحدوتة سهلاً مستساغاً ميسراً، بينما ربما نجد صعوبة فى التعرّف على ملامح الحدث أو فى تحديد رسمه وعقدته وصراعه.
تلك هى القواعد المعهودة للمشاهدة.
وهى قواعد دائماً ما تكون صالحة ومجدية إلا فى حالة كحالة «ريش»، فلا يمكنك عند المشاهدة أن تجزم بأنك تدرك حدوتة «حكايته»، فهى ملتبسة غامضة دون داعٍ فنى أو درامى، وهى قليلة الإفصاح ونادرة الإيضاح لسبب مجهول، أو ربما لسبب آخر، وهو أن ذلك العمل -فى حقيقته- لم يكتمل فى ضمير صانعيه ولم يرتسم فى خيالهم الفنى قبل الشروع فى إبداعه الفنى.
وفى هذا الإطار، وعطفاً عليه، فإننى لا أجد مثلاً سبباً واحداً لذلك الخرس المتعمد الذى انتاب شخصية البطلة طوال الفيلم تقريباً، إلا فى لحظات نادرة حرص المخرج حينها أن يجعل مراتها القليلة المتكلمة فى لقطات بعيدة Long، وكأن الصوت تم تركيبه على الصورة، بالطبع ذلك لا يمكن أن يحدث عفوياً، ولو كانت حتى تؤدى دور المقتولة الحية، فلا ينبغى أن يحيطها ويغلفها ذلك الصمت المريب، لقد جنّبها السيناريست والمخرج أى ديالوج معد سلفاً، وجعلنا نسىء الظن تماماً بها، فقلنا ربما تكون كومبارساً صامتاً فى الأصل، وليست مهيّأة للتعبير بأى حوار، وما يدعم هذا الظن حينها (الذى ليس بعضه إثماً) أنها وجه مجهول لم نره من قبل.
المهم أن هذه السيدة التى امتدحوها كثيراً نكاية فى الفنانات الأخريات صاحبات الفساتين السواريهات اختفت فى صمت لم يعلن عنها أو يشى بها (كما توهم الصانع أو أراد أن يوهمنا)، وربما تسترت بعدم التعبير حتى لا تنكشف حقيقتها الفنية، ومن ثم بلغ صمتها حداً من التصنّع والتكلف الممقوت لا يبرّر ولا يُطاق، ربما يخيل على البعض من هواة الفنون الغامضة، وربما يروق أيضاً للمدرسة الفرنسية باعتباره بعضاً من أمراضها التعبيرية.
لكنه يظل بالنسبة لنا نقصاً سينمائياً فنياً يقارب العجز.
يا سادة أى واقع فى حياتنا لا نستطيع غناءه حزناً أو فرحاً أو محاكاة، فهو واقع افتقد القدرة على أن يكون درامياً، أو فى الحد الأدنى عجز متأملوه عن أن يحيلوه إلى دراما جديرة بالمعالجة الفنية.
نعلم جميعاً أن القبح جزء من الواقع المرئى والمعيش فى تلك الحياة، لا فى بلادنا فحسب، ولكن فى الكثير من البلاد، حتى تلك التى تعد من العالم المتحضر، لكننا سينمائياً لا ينبغى أبداً أن نعرض ذلك القبح لنألفه ولنستسيغه، ولكن نعرضه فقط لنحرّض عليه، ولنستنكره ولنكرس النفور منه.
ربما من إيجابيات «ريش» وحسناته السينمائية القليلة أن الواقعية المرئية فيه لا تدار أو تعرض من عين الوافد والزائر للمكان والحدث، وإنما تطل علينا من زاوية المقيم، لكن هذا لا يبرر الإمعان فى تجسيد هذا القبح وتكراره وتجسيمه دون إظهار الوجع منه والبغض له.
الأَوْلى حينئذ المرور عليه لا الوقوف عنده والاستغراق فيه.
فالسينما فى هذه الحال، وعلى هذا النحو تقع فى فخ خطير وكأنه البئر السحيقة، ألا وهو تصوير الواقع المنظور وكأنه مكافئ للحقيقة ومماثل للحق، وهذا خطأ بالغ، فالواقع المشاهد بعض (مجرد بعض) من الحقيقة والحق.
وحتى من منطلق الواقع والواقعية فإن «ريش»، الذى شاهدت، لا يمثلهما بحال فهو ليس لوحة متكاملة يتم استبقاؤها مكتملة فى ذاكرة المشاهد، بل هو مجموعة صور مشتتة تصف واقعاً ملتبساً.
لم أجد سهولة فى تصنيف شكله الفنى، هل هو فيلم تسجيلى، أم أنه نصف درامى، أم درامى يفتقر إلى كثير من عناصره؟ ففى لحظات منه يتهيأ لك أنهم يجتهدون لالتقاط لحظات ومشاهد حقيقية من الحياة.
وفى لحظات أكثر عدداً وأطول زمناً تجزم أنها مجرد محاولات غير مكتملة لصُنع مشاهد مشابهة لحركة الحياة، أو بالأحرى لاستنساخ مشاهد شبه حقيقية.
النتيجة التى لا مراء فيها ولا إجحاف أن الكلفة بينة والصنعة ظاهرة والإيهام منتهك على نحو كامل.
الفيلم يا سادة ليس تسجيلياً وليس درامياً، إنما هو بين بين، وكل بين بين منقوص.
قد يكون «ريش» الذى قصده صانعه تجسيماً لعالم الأموات الحية إذا جاز التعبير (ومن الحق أيضاً ألا يجوز أبداً لغموضه وتعقيده)، لكننا مع الفيلم نستشعر أنفاس الموت ولا نرى وجوه الحياة.
ندرك أثناء المشاهدة أن بؤس هؤلاء الناس حقن اجتماعى وريدى وكأن الألم المزمن جزء من شريان حياتهم، لكننا أبداً لم نغنه ولن نفعل، لأننا أبداً لن نستبقيه فى وجدان، ولن نقبل أن يعيش فى غمار الضمير، فالشخصيات فى فيلم «ريش»، ورغم مأساويتها كانت باردة ولا تقارب تمام حقيقتها فى الواقع المعيش، رغم أن الذين قاموا بأدائها هم بعض الشخصيات الواقعية أنفسهم، لكن بأدائهم البارد المتكلف أشعرونا بعدم استحقاقهم لما هو أفضل.
يا سادة، لا يمكن لناقد سينمائى عاشق أن يكره التعبير عن الواقع، أو أن يبغض مسمى الواقعية، ونعلم فى بلادنا قديماً وحديثاً أن الواقع المر له وطأة وثقيل، لكن ألم يكن واقع شخصيات «بداية ونهاية» أو «يوم مر ويوم حلو» واقعاً مراً وثقيلاً، وله وطأة، لكن الحياة الساكنة فى ضمائر شخصيات هذه الأفلام كانت قابلة للتعاطى والمحاكاة، بل وجديرة بالغناء وكل غناء.
أفهم جيداً لماذا يحصد الفيلم جائزة دولية فرنسية (على وجه التحديد)، ذلك لأننى أفهم جيداً غرام فرنسا فى السابق والحاضر واللاحق بأوجاع الشرق، وهو ليس غراماً إصلاحياً، بل غرام استحواذى امتلاكى عنوانه (لعلنى أسعد بآلامكم، لأننى أظننى دواءها الوحيد وطبيبها النادر الوجود)، وقديماً قالها المفكرون «مصر ولع فرنسى»، والحقيقة أن الشرق كله وعلى رأسه مصر ولع فرنسى، لكنه ولع امتلاكى محتل، بغضه غالب على عشقه.
يا سادة ليست دائماً شروط النجاح المهرجانى للفيلم أن يكون مفارقاً للسينما الأمريكية وحسب، فهذا الشرط الفرنسى ليس دائماً مستساغاً.
قد أفهم وأتفهم جيداً، بل وأتقبل أن يخرج بعض الفنانين من السينما رافضين استكمال الفيلم.
قد أفهم ذلك باعتباره فناً غير مكتمل أو غائباً، لكننى فى المقابل لا أستطيع أن أتفهم، فضلاً عن أن أتقبل، خروجهم ونفورهم باعتباره إساءة إلى الوطن.
فالفيلم وإن كان جريمة، فهو ليس جريمة وطنية، وليس جريمة أخلاقية وإنما أظنه بحق جريمة فنية.
ومن المؤسف دولياً وفرنسياً على وجه الخصوص، أن فيلماً كهذا يحصد جائزة دولية فى مهرجان كان، جائزة امتنعت عن تحف سينمائية خالدة كـ«الأرض» و«شىء من الخوف» و«الحرام» و«دعاء الكروان».
القياس الفرنسى مريب تارة.
ومريض تارة أخرى.
أذكر فى الماضى القريب احتفاءهم المبالغ فيه بسينما إيرانية ربما فقط لأهداف سياسية وأيديولوجية السينما ليست حاضرة فيها إلا بالقليل.
أما حصول الفيلم على جائزة فى مهرجان الجونة فهو اجترار مريض للتبعية المسكينة، التى تتملك البعض منا فى عالم السينما وفى عوالم أخرى كثيرة غيرها.
لماذا السينما؟
سؤال كبير مهم ربما لو استطعنا دائماً الإجابة عنه لفهم الجميع، مبدعين ونقاداً وجماهير، لماذا أحب أو أكره أو أصمت؟