على مدار عقود، طورت الدولة المصرية أسلوبا دبلوماسيا واستخباراتيا في التعامل مع الأزمات، يهدف إلى تصفية النزاعات والصراعات قبل أن تتطور إلى مراحل المواجهة المباشرة.
ذروة نضج هذا الأسلوب اتضحت منذ تولي الرئيس السيسي وإلى الآن، فرغم الصراعات التي كان يمكن أن تتورط فيها مصر، لم تُطلق رصاصة واحدة من القوات المسلحة التي شهدت -في نفس المدة- تطورا غير مسبوق.
الضعيف لا يملك إلا أن يحاول تجنب الصراعات، لكن القوي القادر يبذل جهودا مضاعفة لكي يتجنب استخدام القوة، لكن التاريخ يقول إن النتائج المتحققة عبر هذا الأسلوب أفضل كثيرا وإن تأخرت.
أحدث فصول النهج المصري هو المفاوضات الجارية حتى لحظة كتابة هذه السطور في القاهرة، والتي تهدف إلى الوصول لاتفاق هدنة ينزع فتيل أزمة كبرى في رفح الفلسطينية.
مصر هنا ليست مجرد وسيط يحاول تقريب وجهات النظر، حيث التهديد لصيق على حدودنا، وهو ما يضيف مزيدا من الضغوط، لا سيما وأنه بدا واضحا أن مخطط التهجير حاضر تماما في الفكر الإسرائيلي، ويتحين الفرصة المناسبة للتنفيذ.
ورغم ذلك، تحلت مصر بأقصى درجات ضبط النفس، مع أقصى درجات توظيف الدبلوماسية في ممارسة الضغوط.
ماذا نتج عن ذلك حتى الآن؟
أولا: دفع طرفي صراع يعتبران التصعيد هدفا يحقق مصالحهما إلى التفاوض حول اتفاق هدنة، وثانيا: تصريح أمريكي يقول بوضوح إن إسرائيل لن تتسلم شحنات الأسلحة المطلوبة إذا اقتحمت المناطق المكتظة بالسكان في رفح، وفي السياق نفسه، يقول إن تل أبيب بخطواتها على الحدود مع مصر تثير المشكلات مع القاهرة.
لولا الموقف المصري، الذي يعرف جيدا كيف يكون حاسما دون عنترية، واضحا دون إطلاق تهديدات فارغة، ربما كان الوضع مختلفا تماما في عموم غزة وفي رفح خصوصا.
ما تقوم به مصر هو درس في فن صناعة مزيج القوة الذي يحقق الأهداف ولا يؤجج الصراعات، ولو -لا قدر الله- انفلت صراع كهذا إلى تصعيد غير محمود، فلا يمكن للتاريخ إلا أن يذكر الدور المصري كمحاولة لوأد الصراع، فلم تكن مصر يوما مشعلة لحرائق أو مؤججة لأزمات.