القضية ليست سعد الدين هلالى، وإن كان هو اليوم فى صدارة عناوينها، لذا دعونا نتذكر ونذاكر أنه بالأمس البعيد والقريب كانت هنالك عناوين أخرى مشابهة، ولكن بأسماء مختلفة وكانت أكثر نجومية فى عصرها فكراً وتنويراً، ثم للأسف (اضطهاداً واغتيالاً)، ما يجعلنا نسمى ما حدث ويحدث وسوف يحدث لاحقاً بأنه فى الأساس مرض فى ثقافة أمة لم تفلح كل المحاولات فى تبديده أو تبديله، والذاكرة التاريخية متسعة لعشرات، بل ربما مئات الأمثلة منذ (ابن رشد، وابن سينا، والفارابى، والجاحظ.. إلخ) بل ومن قبلهم الأئمة الأربعة أنفسهم، ومَن هم أقرب «على عبدالرازق، وطه حسين، ومحمد عبده.. إلخ».
الشيئان الوحيدان المشتركان شكلاً ومضموناً هما: الأول هو أداة الاغتيال (الاتهام بالزندقة والمروق والفسق وإنكار المعلوم من الدين بالضرورة والقفز على ثوابت الدين.. إلخ إلخ)، والثانى هو صفات المغتالين بأنهم (حماة الدين ودروع العقيدة وحصون الإسلام فى كل زمان ومكان).
ليست القضية إذن أن نناقش ما قاله «هلالى»، وما سوف يقوله أو يقوله غيره لكن القضية هى (الكهنوت)، نعم (الكهنوت)، ذلك الذى تبرأ الإسلام منه نصاً قرآنياً وحديثاً نبوياً وممارسةً وسنةً محمديةً، لكن أوصياء الدين أبوا إلا أن يشكلوا له مؤسسات، ويبنوا له منابر ومعاقل وسجوناً ومعسكرات، مستغلين جهل العامة وحماسهم للطاعات، والجهل الذى أعنى ليس معرفة المعلومات الفقهية أو الاطلاع على بعض العلوم التى تسمى تجاوزاً بالشرعية، وإنما الجهل بحقائق الحياة وسنن الكون ومبادئ الإنسانية.
من منطلق هذا الجهل تنفجر قنابل اغتيال مناراتنا الفكرية وتتشكل فى وجدان وعقل وقلب كل مسلم قضبان حديدية، وتستبدل عنده سعة الآفاق بالنفاق، فيتربى على اغتيال الأسئلة فى عقله، أو مباركة الإجابات الملفقة فى وجدانه وحسه، وكأنه، حاشا لله، يجامل إلهاً لم يستطع أن يحسن أو يجيد أو يكمل قصة خلقه للكون والعباد، فبدا فى القصة نقص وفساد، فيتغاضى العبد الضعيف عن النقص البادى فى صنع الإله العظيم (حاشا لله، حاشا لله).
نعم، إن أقصى جرم يرتكبه هؤلاء باسم الدفاع عن الدين هو إهانة الدين ورسمه ووسمه أمام الوجود والموجودين بأن خطوطه واهنة وألوانه باهتة وأنه يعانى من هشاشة الفكرة واختفاء العبرة، بينما يؤكد لنا المصطفى المختار، صلى الله عليه وسلم، بأنه دين الحكيم الخبير الجبار فيقول: «إن هذا الدين متين».
القضية إذن ليست رأياً فى المواريث ولا تأويلاً أو تطبيقاً (للذكر مثل حظ الأنثيين)، ولكن محض القضية أنه حينما عطل عمر بن الخطاب حد السرقة، أو ألغى حصة المؤلفَة قلوبهم، أو تم العفو عن زانية أو زان بمقتضى التوبة، فلم يجلد أو يرجم، لم نقرأ أن أحداً سخط وثار، وقال إن هذا انتهاك لآيات الله العزيز الجبار.
الغريب، (لماذا الغريب)، بل لعله المتسق والمنطقى، أن المسلمين فى عصر صدر الإسلام وفى زمن فورانه وحرارته يكونون بهذه الصدور الرحبة والآفاق المتسعة إدراكاً للأهداف الكلية والمقاصد العليا لآيات القرآن الكريم، فالمسلمون حينذاك هم الصدى الحقيقى والأثر الدقيق لتربية ومنهج المصطفى، صلى الله عليه وسلم، تعلموا من البشير النذير أن يبددوا فى أنفسهم شهوة احتكار المعرفة الشرعية، أياً كانت فى نظرهم، وجردوا ذواتهم من جشع الوصاية الدينية.
وفى المقابل، لا بد أن نفكر وأن نتذكر أن بداية الآفة وأصل المرض (ظاهره وباطنه) نشأ عند النهاية المأساوية لذى النورين عثمان بن عفان، حينما بدأ شيطان الخوارج يعمل بجد فى القلوب، ويوسوس بطغيان فكر للعقول، فسوّل لهؤلاء الشاذين المارقين قتل أمير المؤمنين.
لكن الغريب أن الخوارج ظلوا فى الأزمنة الماضية أفراداً وبعض جماعات، فهل يريدونهم فى زماننا هيئات ومؤسسات؟
لا أكتب كل ما كتبت الآن كى نشاطر الدكتور سعد رأيه فى قضية المواريث، بل لعلنى أذكّره بأن إقراره لقانون تونس ربما كان مخالفاً لمنهجه الذى دائماً ما يكشف عن مساحة الاختيار فى تأويل النصوص الشرعية من الآيات القرآنية، فلماذا إذن نكون فى حاجة إلى قانون يقوّض ويقلص هذه المساحة، خاصة أنه إذا ارتضى أصحاب الحقوق إحساناً، فمن البديهى أن صاحب الحق يملك إقرار الحق أو الخصم منه أو حتى التنازل عنه، أما ما هو غير ذلك، فليحتكم للآية برضا وسماحة وإيمان.
القضية يا سادة أسهل كثيراً من أن تُشهر من أجلها السيوف، وتغتال بسببها العقول والقلوب، فلماذا الافتعال طالما لم يكن هنالك سبب للانفعال.