السعودية ولبنان.. قرار الصدمة ومواقف الدهشة

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

على مدى أربعة قرون تميزت المواقف السعودية إزاء القضايا العربية أو الدولية بالحرص والحذر، وفى العام الماضى بدا أن كثيراً من الأداء السياسى السعودى فى المجالين العربى والإقليمى يتسم بالسرعة والمفاجأة وبما يصدم البعض أحياناً وقد يدهشهم أيضاً. وما يجرى الآن فى لبنان بعد قرار المملكة وقف دعم الجيش اللبنانى وقوى الأمن بأربعة مليارات دولار على سبيل الهبة هو خير مثال لمبدأى الصدمة والدهشة؛ الصدمة نتيجة لعدم التمهيد للقرار وإصداره كمفاجأة للكل، أما الدهشة فترتبط بمضمونه وكونه مُعبراً عن أداء جديد فى مجاله بكل معنى الكلمة. وفى حالتنا اللبنانية الراهنة يمكن أن نضيف التخوف الشعبى من أن تكون هناك إجراءات سعودية أخرى قد تمس الوجود اللبنانى فى المملكة أو أن تسحب الرياض أموالاً لها مودعة فى البنوك اللبنانية وقد تحذوها دول خليجية أخرى، وهو إن حدث سيشكل ضربة قاصمة للاقتصاد اللبنانى ونظامه المصرفى الذى صمد فى وجه تحديات عاتية سابقة بفضل الدعمين السعودى والخليجى.

التخوفات اللبنانية شعبياً ورسمياً لها ما يبررها، فقرار الرياض بوقف الدعم للجيش اللبنانى تم تبريره بصدور مواقف لبنانية على المنابر العربية والإقليمية والدولية بعدم إدانة الاعتداءات السافرة على سفارة المملكة فى طهران نظراً لمصادرة حزب الله اللبنانى إرادة الدولة، وبما تشكله هذه المواقف من أمر مؤسف ولا ينسجم مع العلاقات الأخوية السعودية. وأياً كان التبرير فهناك ضرر حدث بالفعل على لبنان، وهناك أيضاً دعوة ضمنية لتصحيح هذا الضرر من خلال نص البيان الرسمى السعودى ومفادها ضرورة استعادة قرار الدولة اللبنانية، وهى دعوة تستنهض القوى اللبنانية المؤيدة بقوة للسعودية تحت مظلة قوى 14 مارس/ آذار بزعامة سعد الحريرى وتيار المستقبل وحلفائه من الأحزاب المسيحية، للوقوف بقوة ضد الطرف الآخر الذى يضع لبنان رسمياً تحت ما يشبه وصاية إيرانية لا تراعى متطلبات العلاقات العربية للبنان، وتزج به فى خانة أعداء العروبة، وهو ما يشكل تحدياً للأمن السعودى، أخذاً فى الاعتبار التطورات الجارية فى سوريا، والدور الذى يقوم به حزب الله فى دعم حكومة الأسد ونظامه.

الموقف السعودى الراهن يُعد جديداً قياساً بتاريخ العلاقات مع لبنان، فلم يحدث أن قاطعت الرياض لبنان حكومة أو رئيساً أو أى طرف فيه مسلماً كان أو مسيحياً، لأى سبب كان مهما كانت مواقفه المناهضة لسياسة المملكة. وفى أحلك الأوقات كانت الرياض دائماً حاضرة للمساعدة بأشكال ومستويات مختلفة. وفى خضم الحرب الأهلية اللبنانية التى استمرت عقداً ونصف عقد ما بين 1974 حتى 1989، حافظت الرياض على علاقات متوازنة ومساعدات مالية واقتصادية مع كل أطراف الحرب سواء كانوا لبنانيين أو فلسطينيين أو سوريين، وهو ما أهّلها أن تلعب الدور الرئيس فى إنهاء الحرب التى أنهكت الجميع عبر استضافة كل الرموز اللبنانية، فكان اتفاق الطائف الذى شكّل لبنة أساسية فى وقف القتال واستعادة الهدوء والعودة مرة أخرى إلى صيغة الديمقراطية التوافقية والمحاصصة السياسية بعد تعديلات جزئية فى الحصص المخصصة لكل طائفة من الطوائف الثلاث الرئيسية، وهى المسلمون السنة والشيعة والمسيحيون.

لبنان الدولة الآن فى ورطة كبرى، لا شك فى ذلك، وهى ورطة تنتج أبعاداً خطيرة تضاف إلى الحالة المزرية التى عليها مؤسساته وقواه السياسية المختلفة فيما عدا حزب الله، الذى يبدو الأكثر تماسكاً والأكثر شعوراً بالانتشاء والزهو نتيجة التطورات الأخيرة فى سوريا بعد التدخل الجوى الروسى الذى أعطى نظام الأسد أفضلية عسكرية فى مناطق عدة، وأحاطه بقدر كبير من الحماية وأبعد شبح السقوط عنه. والسؤال الذى طرح لبنانياً لا سيما من القوى القريبة من الرياض: هل وقف المساعدات للجيش ولقوى الأمن سيؤدى إلى تغيير المعادلة الخاصة بدور حزب الله سلباً، أم أن الأمر قد يصب فى مصلحته أكثر؟ فالجيش اللبنانى هو أحد عناصر هياكل الدولة التى يرغب حزب الله فى مصادرتها تماماً، وإذا انهار هكذا جيش يعبر عن لبنان التعددى التوافقى، فسنكون جميعاً أمام لبنان جديد بكل معنى الكلمة واقع إلى أذنيه تحت هيمنة إيرانية صريحة ومباشرة. وإيران من جهتها والتى ترى لبنان واقعاً تحت سطوتها بشكل غير مباشر قبل هذا القرار السعودى أعلنت صراحة أنها على استعداد كامل لتسليح الجيش اللبنانى، وكذلك أعلنت تركيا على لسان رئيسها الاستعداد بتزويد الجيش اللبنانى بما قيمته 1.5 مليار دولار قطع غيار للأسلحة والمعدات. وبالطبع لكل عرض إيرانى أو تركى ما وراءه من أسباب تتعلق بمشروعات هاتين الدولتين فى اكتساح مساحات جديدة من النفوذ فى مواقع عربية، أو كانت عربية، تمهيداً لخريطة جديدة للشرق الأوسط قوامها تفتيت الدول العربية واستباحتها من جيرانها الإقليميين الأقوياء بدعم ومساندة من قوى دولية كبرى. وبهذا المعنى الواضح يخسر لبنان ويخسر العرب جميعاً.

من حق السعودية أن تغضب من الذين لا يقابلون مواقفها السخية مادياً وسياسياً ومعنوياً بما يليق مقاماً، ومن حقها أن تعاتب وأن تدعو إلى تصحيح الخلل، ومن حقها أن تدافع عن مصالحها بكل ما تراه وتتمكن منه. وفى السياق ذاته من حق العرب عليها أن تشاورهم فى مثل هذه الخطوات الكبرى لعل لدى أحدهم أو بعضهم خيارات تؤدى الغرض دون ضرر لعروبة لبنان أو غيره. فالصدمة والدهشة ليست دائماً مطلوبة فى القضايا المتشابكة والمعقدة كخلاص لبنان من حقبته الإيرانية التى تظلله منذ سنوات. كما أنها من حيث المبدأ ليست ملائمة فى قضايا أخرى ذات صلة مباشرة بمواقف سيادية لأشقاء آخرين، مثل الدخول فى حرب على بُعد آلاف الكيلومترات أو إرسال قوات لمهام خطيرة قد لا تجد دعماً من الرأى العام المحلى فى بلد آخر.

ولعل الجانب المضىء نسبياً فى صدمة وقف الدعم للجيش اللبنانى أنها ذكّرت القوى اللبنانية بدورها الغائب فى حماية دولتهم ومؤسساتها، وفى تقصيرهم لمواجهة نفوذ طرف يغالى كثيراً فى مواقفه، وفى قبولهم الأمر الواقع على نحو يهدد وجود لبنان العربى التعددى الفريد. غير أن هذا الجانب المضىء يظل بحاجة ماسة إلى دعم لمؤسسات الدولة اللبنانية نفسها وفى مقدمتها الجيش الذى يدافع عن الوطن بكل ما فيه وكل من فيه. والمؤكد أن القيادة السعودية تدرك أهمية جيش لبنان وضرورته فى مواجهة مساعى الهيمنة الإيرانية، وهو إدراك يجعلنا نرجح العودة قريباً إلى ما هو طبيعى ويصب فى مصلحة عروبة لبنان ومصلحة العرب معاً.