أوليس للعشق شهداء؟!

تكررت على وسائل التواصل الاجتماعى عبارات تعلق ساخرة من جملة قالها أو لم يقلها فضيلة الشيخ على جمعة، الجملة فى حقيقتها حديث «حسن» عن بن المسيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه من عشق فعفّ فكتم فمات فهو شهيد»، وأذكر أن أول عبارة علّقت بها على ما سمعت: «الله»، وهذا كان من قبل أن أصل لمتن الحديث ومن قبل محاولة التأكد من صحته، فقد وقع بنفسى موقع استحسان ورضاً، إذ إن المعنى رائع وبغاية النبل، ذلك أنى فهمته بشكل لا يقف عند معانى الكلمات المجردة، بل ربما بشكل أكثر شمولية واتساعاً.

ما هو تعريف الشهادة، أو الاستشهاد فى سبيل الله؟! أوليس فعل الشهادة هو ترك أكبر لذة فى الوجود، وهى الحياة والبقاء، لأجل مرضاة الله، سواء بالدفاع عن الدين أو العرض والشرف أو الوطن أو من أجل أى هدف نبيل به رضاء الله؟ إذاً فالأصل فى الشهادة هو جهاد النفس، والذى يندرج تحت باب الجهاد عموماً، أى المقاومة وبذل الجهد والتعب ومغالبة الهوى والمتع لأجل غاية أسمى وأنبل.

كذا شهداء العشق يألمون، فعالم العشق والعشاق ليس سواء أبداً، العشق نار ووجد وولع وألم، لما يجد العاشق من صعوبة أموره وأحواله. العشق من درجات الحب الأشرس والأقوى والأكثر فتكاً بقلوب البشر، والحديث هنا عن العشق الحقيقى الصادق الراقى الأمين والمرتبط بالعفة والسمو، وهو جهاد كبير لمن يعلم ومن لا يعلم.

ليس كل العشاق مرفَّه بنيل حبيبه، وليس كل عاشق محظوظ بالحصول على من يعشق، هناك من يمنعه عن عشقه ظرف مادى وقصر ذات اليد، وهناك من يحول بينه وبين معشوقه بلاد ووديان وأنهر ومحيطات وجبال من مسافة وصعاب، وهناك من يحجزه عن حبيبه اختلاف عقائدى أو مذهبى، وهناك من يمنعه ظرف اجتماعى قاهر يحيل ظلام وسكون الليالى نهاراً وضجيجاً لا يسكنان، وهناك من هو مكبّل عن معشوقه بالتزام تجاه أناس آخرين هم أشد حاجة إليه من حبيبه، وهناك من يمنعه عن توأم روحه الخجل بالإفصاح عن مكنون قلبه، وهناك موانع من أشياء وأشياء.

وليس كل عاشق يحترم الحواجز والصعاب والأهوال، ليس كل العشاق يستطيع تحمل ألم البعاد وعدم الوصال، إنها مشقة بالغة لمن تعلق قلبه بقلب آخر، ألم العشق يقارب ألم السهام والخناجر إن تملّك من قلب أحدهم، إنه ألم أودى بعقول أناس وبحياة آخرين، ألم أسقط ممالك وانهار أمامه ملوك وسلاطين، فنيران وصبابة الوجد تكون أحياناً أشد وطأة من منجنيقات الأيام الأوائل أو من صواريخ الـ«إف ١٦»، إذاً فالعشق حرب وجهاد، وليس الجميع بعاشق وليس كل عاشق يصل لتلك الدرجات من المحبة والتعلق، فهى قدرات متفاوتة بين عُبّاد الله، كما الإيمان وكما القدرات العقلية والذهنية أو حتى المهارات الفردية. فليس البشر بسواء.

وكما للحروب عهود ومواثيق فكذلك للعشق أصول وأخلاق ونواميس، هناك عشاق يلتزمون بجميل خصال العشق، ويقفون عند حدوده ونواهيه، هناك عشاق أعفاء شرفاء، لا يأخذون من عشقهم ذريعة للتعدى والبغى أو البغاء، هم عشاق من نوع خاص، مقاتلون، مجاهدون، لحالهم وقلوبهم يغالبون، يتألمون ويكتمون ما بهم من وجد وضعف وانهيار، يكتمون عشقهم للأسباب سالفة الذكر من مستحيلات الحب والاستقرار، ولا يحصلون على عشقهم عنوة أو تبجحاً، بل يؤثرون الصمت والألم على المساس بأى محاذير أحالت بينهم وبين أحبائهم.

وبالنهاية دعونا لا نقف أبداً بالكلمات عند معانيها المجردة، فقواميس العالم تتسع لأكثر بكثير مما تحتوى حقيقة، فقط استشعروا الكلمات بقلوبكم، فليس بالعقول وحدها تُدرَك الأمور.

كما أن الشهادة والموت فى سبيل الله سر بين العبد وربه، ورفض وقبول، كجميع الأعمال المتقرب بها إلى الله.