فى الرد على الصلف التركى

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

فى أحد محلات الأدوات الكهربائية، طلبت قطعة معينة، فأحضر لى نوعين، اخترت أحدهما، فقال لى ناصحاً: «خذ النوع الآخر فهو تركى، وبالسعر ذاته للقطعة الصينية»، كان ردى جاهزاً: «لن أشترى أى منتج تركى، حتى لو كان أفضل ألف مرة.. أنا لا أشارك فى تقوية اقتصاد بلد يسعى رئيسه إلى تخريب أوضاعنا، ويعلن علينا الحرب، ويستضيف إرهابيين مطلوبين للقضاء». وهنا تدخّل البائع الشاب، قائلاً: «أنا أدرك كل ذلك، لكنهم الموردون الذين يضعون أمامنا إما الصينى وإما التركى». وفى هذه اللحظة تدخل طرف ثالث، قائلاً: «اليوم فى الجرائد خبر يقول إن وزير الخارجية التركية يريد عودة العلاقات مع مصر».

وبالعودة إلى الخبر ونصه المنشور فى جريدة «الوطن» قبل يومين، تصريح وزير الخارجية ينطق بالكذب والصلف، قائلاً: إن «بلاده لم تقم بأى خطوة سلبية تجاه مصر -هكذا مرة واحدة- وإن الضرورى أن تحل مشكلاتها الداخلية فى الإطار السلمى، وإن المملكة السعودية تدعم ذلك». كذب وزير الخارجية التركى واضح، ولا يحتاج إلى بيان، وفيه صلف وعجرفة وتدخُّل فى ما لا يحق له أن يتدخل فيه. ومن قبيل التأكيد نذكّر أنفسنا بتصريحات رئيسه المتكرّرة والشائنة بحق المصريين جميعاً طوال السنوات الثلاث الماضية، التى وصلت إلى قمتها فى خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى سبتمبر 2014، وفيه صب جام غضبه واستنكاره ومواقفه السخيفة بحق المصريين جميعاً، وبحق الرئيس السيسى.

وبالطبع مثل هذه التصريحات والمواقف تمثل قمة التدخُّل فى الشأن الداخلى وقمة الصلف والعجرفة، ويصاحبها ما هو معروف من استضافة قيادات الجماعة الهاربة وتحريضهم على العمل ضد مصر بكل ما يستطيعون، فضلاً عن فتح قنوات فضائية تديرها عناصر إخوانية، كل همها الإساءة والتحريض والتشويه. وإذا كانت الحكومة قد اتخذت قراراً فى السابق بخفض التمثيل الدبلوماسى، وأوقفت كل التعاملات السياسية منذ نوفمبر 2013، لكنها تركت أبواباً تمر منها التعاملات التجارية، فى محاولة لتحييد ما هو اقتصادى عما هو سياسى حسبما قال وزير الصناعة والتجارة منير فخرى عبدالنور، فى أكتوبر 2014، فهذا شأن الحكومة، أما المصريون فيجب أن يكون لديهم شأن آخر لا يقل عن احتقار كل ما فعله «أردوغان» ومقاطعة بضائع بلاده، والامتناع عن زيارة تركيا لأى غرض كان، إلى حين التغيير التام للسياسة التركية تجاه مصر وإرادة شعبها، والأفضل حتى يختفى من المشهد كله الرئيس التركى المُختال بنفسه.

قد ينتقد البعض الدعوة إلى المقاطعة ويصفها بموقف العاجز، وأن أضرارها أكثر من منافعها، استناداً إلى أن هناك استثمارات تركية فى مصر يعمل فيها عدة آلاف من المصريين سوف يتأثرون إن سارت المقاطعة تياراً عاماً جامعاً بين عموم المصريين. ومع ذلك فليس هناك مفر من سلوك المقاطعة أياً كان حجمها، فلا يمكن للمرء أن يظل هكذا ساكناً، بل وداعماً لمن يَضرُ بلده ويتدخل فى شئونه ويحتقر إرادة شعبه، فأى سلوك وطنى يمكن للمرء أن يدعيه إن ظل ساكناً بلا حراك حتى لو كان رمزياً.

وفى ظنى أن ما يُقال الآن عن رغبة تركية فى عودة العلاقات مع القاهرة، حتى إن كانت مرهونة بوساطة سعودية، وبدافع إنقاذ مؤتمر القمة الإسلامى فى إسطنبول فى أبريل المقبل، فإن جوهر السياسة التركية فى ظل «أردوغان» تجاه مصر والتدخُّل فى شئونها لن يتغيّر كثيراً، أو ربما لن يتغير أصلاً. ودعونا نتصور مثلاً أن القاهرة قبلت جزئياً بعض الشروط التركية التى قدّمتها للرياض، من قبيل الإفراج عن رموز الإخوان وألغت أحكام القضاء المصرى، لإرضاء الباب الأردوغانى فى أنقرة، وأعادت الاعتبار مرة أخرى إلى الإخوان كجماعة غير إرهابية قبل أى اعتذار أو أى مراجعات شاملة، فهل يمكن لأحد أن يشعر بالامتنان أو يتحدث عن سيادة وعن دستور وقانون، وعن قضاء مستقل، وعن فصل بين السلطات. وقتها وبكل وضوح سنفقد ثقتنا فى أنفسنا، وسنفقد أيضاً ثقتنا فى الرئيس إن قبل مثل هذه الشروط المهينة. ودعونا نتساءل من يضمن لنا ألا يُقدم «أردوغان» على فعلة نكراء بحق الرئيس إن ذهب إلى القمة الإسلامية؟

وقد يقول قائل إن فن التفاوض يقوم فى الأساس على المطالبة بالحد الأقصى، وصولاً إلى الحد الذى يمكن القبول به عملياً ولا يمثل خسارة، بل يعتبر مكسباً صافياً، وبالتالى فإن شروط «أردوغان» المهينة هى الحد الأقصى الذى يمكن النزول عنه قليلاً. وفى المقابل فإن مصر لها الحق فى أن تطالب بحد أقصى ثم تتنازل عنه قليلاً، وبذلك تتم المصالحة وتنجح الوساطة السعودية ويتحقق المأمول فى إنقاذ القمة الإسلامية المقبلة. وحتى هذا المنطق رغم وجاهته النظرية، فلا يلغى إطلاقاً أن تركيا تسعى وتصر على إهانة الشعب المصرى وحكومته وقيادته ومؤسساته، وتعطى لنفسها الحق فى التدخُّل فى شأن داخلى سيادى غير قابل للنقاش أصلاً، وهى إن كانت راغبة فى إصلاح علاقتها مع الشعب المصرى وحكومته فليس لها أساساً أن تطرح مثل هذه الشروط المهينة، فلا مصر ولاية تركية ولا أنقرة الباب العالى. أما مشكلاتنا فنحن أدرى بها، ولسنا بحاجة إلى نصائح تركية أو غير تركية. وهنا يجوز لنا من باب التقدير والاحترام للقائمين بالوساطة السعودية أن نصرّح بعتاب الإخوة، إذ كيف تمر هذه الشروط المهينة من قناة سعودية إلى القاهرة، أما كان من الأولى أن تُعاد إلى أصحابها مع نصيحة بألا تُطرح أصلاً، لأن القاهرة أكبر من أن تكون تابعاً لتركيا أو لغيرها.

على أى حال، فقد تمسّكت القاهرة بمواقفها، وهذا مبشر، ومطالبة أنقرة بأن تكون إيجابية وملتزمة بسياسة عدم التدخّل فى الشأن المصرى، وأن توقف كل عمليات التحريض ضد مصر والمصريين، وأن توقف تدخّلها الشائن فى الشأن الليبى ودعم ميليشيات التخريب والدمار هناك، وأن تسلم -كما تفعل الدول المتحضرة- المطلوبين لديها للقضاء المصرى، وأن تغلق أبواق الإرهاب الإعلامى، وهى أربع قنوات مفضوحة بإخوانيتها، وهو الحد الذى لا يجوز النزول عنه. باختصار إن أرادت أنقرة علاقات سوية مع القاهرة، فليس أمامها سوى أن تتراجع عن كل أفعالها الشائنة جملة وتفصيلاً، وأن تلتزم بالأعراف والمواثيق الدولية فى العلاقات بين الدول. وما تطالب به القاهرة هو ما يجب أن يكون، ولا يمثل أى تدخُّل فى السياسة التركية، بل هو تصحيح لها وإعادتها إلى جادة العقل والصواب. فهل يفعل «أردوغان» المزهو بنفسه ما يجب أن يكون؟ أشك فى ذلك.