إسماعيل سراج الدين يتحدى (1-2)

رفعت السعيد

رفعت السعيد

كاتب صحفي

فى زمن مجد الإسكندرية القديمة كانت مكتبتها مركز إشعاع لكل جنوب المتوسط، وكانت منارتها واحدة من عجائب الدنيا، وفى أيامنا المرتبكة يتحدى إسماعيل سراج الدين الارتباك ليجعل من مكتبته ملتقى لإشعاع جديد ومتسع المساحة ومنارة تضىء ويتخطى ضوؤها مساحات متوسطية واسعة ليصل حتى أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا. وتتميز مكتبة الإسكندرية الحديثة بتعدد التوجهات فى مختلف المجالات، لكن ما لفت نظرى هو إمساكها بالجراح الآنية وفحصها بحثاً عن دواء يشفيها أو على الأقل يضع أقدامنا بالقرب من طريق حلها، ندوات عن الديمقراطية وأخرى عن الإرهاب وعديد من الموضوعات المهمة ويكون إسماعيل مايسترو هادئاً حتى يخيل إليك أنه غير منتبه، لكنه يحرك كل شىء بابتسامة أو تكشيرة أو لمحة عين.

وربما، كاستكمال أو كافتتاح لمعركة تخوضها وستخوضها المكتبة، أصدر كتاباً جديداً «التحدى.. رؤية ثقافية لمجابهة التطرف والعنف». ومن العنوان ندرك أنه يلتزم بالمدخل الصائب تماماً لمواجهة الإرهاب، وهو أن الإرهاب يبدأ فكراً. لكن إسماعيل لا يكتفى بكتابه عن الموضوع الأكثر أهمية، وإنما هو يوزع ضمن الكتاب أربع هدايا للقارئ: ملحق الأعلام، وملحق الأعمال الفنية والثقافية والحضارية، وملحق المصطلحات العلمية، وأخيراً ملحق المؤسسات والمعالم العلمية والثقافية والحضارية. وكأنه أراد لكتابه أن يكون موسوعة مصغرة للموضوع وكل ما يحيط به. ونأتى للكتاب ولكننا على غير المعتاد نهدى للقارئ ما أتى من عبارات على ظهر الغلاف، فلعلها تقول كثيراً مما أراد. ونقرأ: «إن لمصر دوراً محورياً فى الدوائر المتداخلة فى العالم العربى والإسلامى والأفريقى والمتوسطى، وإن تأخرها فى القيام بهذا الدور الثقافى يدفع ثمنه كل أبناء هذه العوالم المتداخلة، وإن كانت الظروف الحالية من ثراء البعض وفقر الآخرين، أو من التقدم التعليمى والمعرفى لقوم وتأخر غيرهم، قد تؤدى إلى شعور بعضهم بأنهم فى غنى عن الإسهام المصرى ولا يريدون منه شيئاً، بل ويذهب بعضهم إلى محاربة ظهور دور مصرى قوى فى هذه الساحة أو تلك، دون أن يعوا الثمن الفادح الذى تدفعه الثقافات العربية والإسلامية والأفريقية والمتوسطية لغياب دور مصر الخلاق وإسهامها المبدع وقدرتها البناءة». وأتمنى عليك عزيزى القارئ أن تعيد التأمل فى هذه الفقرة، وساعتها ستتأكد أنه أوشك أن يقول الكثير جداً مما يجب أن يقال.

والآن نحن جاهزون للتعرف على الكتاب، وفى التقديم يعطى المؤلف درساً للكثيرين، إذ يعترف بأنه عرض مسودة الكتاب على عديد من المفكرين أورد أسماءهم حرصاً منه على أن يقرأ ويدقق من قبَل عدد من الزملاء والأصدقاء، «حرصاً منى على أن أقدم للقارئ زبدة الفكر مقروناً بتصويباتهم أو ملاحظاتهم.. تقديراً لفكرة بُنى عليها العلم الحديث والمعاصر، بأن كل شىء يخضع للنقد والتحليل والمراجعة». (ص15)، ثم يبدأ، وتحت عنوان «استهلال»، ليبثنا مزيداً مما نشعر به جميعاً فيقول: «أكتب هذه السطور بقلم مثقل بالهموم، وقلب حزين لما يرى حولنا من مظاهر الضعف والانحلال، وما يحيط بنا من التخلف والتبعية، وما اندلع علينا من الإرهاب والعنف والوحشية»، لكنه لا يلبث أن يلهمنا بعضاً من الثقة قائلاً: «فى وقت لم تهتز ثقتى فى شباب وطنى قيد أنملة، ثقتى فى قدراتهم الخلاقة، فى وطنيتهم الصادقة، فى طموحاتهم الشامخة، لأنفسهم ولبلدنا ولمجتمعنا». ويمضى ليستفز النائم فى أعماقنا: «أقول هذا لأننى واثق من أن هذه القدرات الهائلة موجودة لكنها نائمة، راكدة، تنتظر الشرارة التى تفجّر طاقاتها، وتجنّد إمكاناتها، والدعوة التى توجه مسارها نحو الإقدام والتقدم» (ص17). ويذكرنا: «وأعلم جيداً ما سجلت مصر من صفحات مجيدة فى دعم حركات التحرر الوطنى فى البلاد العربية والأفريقية، ودورها وإسهامات أبنائها فى الفكر الإسلامى والقومى، ولكن هذه صفحات سُطرت منذ عقود، وإن واقعنا المصرى والعربى والأفريقى والإسلامى والمتوسطى كله لا يزال دون ما كان لنا أن نتوقع، بل وتقهقر حتى عادت الدول العظمى، والتى دون العظمى، فاستباحت الهجوم على ثقافتنا وعلى مقدساتنا، وعلى تلك الأمور التى تُعتبر من الثوابت المحددة لشخصيتنا.. بل نرى العالم يجرى لإعادة صياغة مؤسساته الدولية ورسم مساراته للخروج من الأزمة العالمية الراهنة، ولسنا مدعوين للإسهام فى صناعة هذا المستقبل» (ص 18).

ثم يعود إسماعيل سراج الدين ليحاول استدراجنا إلى الفعل الضرورى فيقول: «إن ما يعانيه العالم العربى من توتر ألقى بظلاله العنيفة على دول كثيرة، وما يحدث فى العراق وسوريا والصومال وليبيا وأخيراً اليمن يؤكد ضرورة أن نسائل أنفسنا مساءلة نقدية: لماذا أصبحت بلادنا -بلاد العرب والمسلمين- أرضاً خصبة للفكر المتطرف والعنف؟»، ثم يقول: «لقد تخطى التطرف والعنف كل ما هو معقول وإنسانى، وإن كانت مجابهة الإرهاب وعنف المتطرفين تحتاج إلى استعمال القوة العادلة لإعادة هيبة الدولة وسيادة القانون وضمان حقوق المواطنين فى الأمن والسلام، فإن الفكر المتطرف الذى يولّد العنف يجب مجابهته بالفكر وهذا هو التحدى». ثم يقول عبارة حاسمة وربما كانت جديدة علينا تماماً وهى: «ولمجابهة هذا التحدى، نبدأ بالتفكير فيما لا يتصوره التفكير». والعبارة قالها «وول سونيكا» ويفسرها قائلاً: «إذا بدا أن بعض الأفعال المرتكبة ضد الإنسانية تضع مقترفيها خارج دائرة الحوار، فيتعين علينا مع ذلك أن نتبنى مبدأ المساءلة، أن نسأل أنفسنا كيف أسهمنا نحن فى حدوث هذه اللحظة، إن الفشل فى تفحص ذاتنا يقلل من قوة تأثير استجابتنا على المدى البعيد، كما أن هذا الفشل يحصرنا فى عقلية المتعصب الذى لا يسعى مطلقاً للشفاء من دائه، بل قد يكون غير قادر على التعافى، وتتلاشى أمامه لحظة شك ساورته، أو خيارات ممكنة كانت متاحة له، أو الإمكانات المفقودة مع طريق لم يسلكه»..

وبهذه العبارات القاسية يضعنا إسماعيل سراج الدين فى بداية كتابه.. فإلى الكتاب.