قواعد عسكرية تركية فى الصومال

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

حين قال رئيس الاستخبارات الفرنسية فى مؤتمر بواشنطن نهاية أكتوبر الماضى إن الشرق الأوسط، الذى نعرفه بعد الحرب العالمية الثانية قد انتهى إلى الأبد، مشيراً إلى ما يجرى فى سوريا والعراق واليمن باعتباره أمثلة حية على معنى التغير الجذرى، الذى أشار إليه، وهو التصريح الذى أثار آنذاك، وما زال، نقاشاً كبيراً حول مستقبل الشرق الأوسط كإقليم تتعرض دوله كلها دون استثناء إلى تحولات كبرى، سواء فى القدرة على الصمود كمصر والسعودية والجزائر والمغرب، أو التوسع المنهجى مثل إيران وتركيا، أو التخبط كالعراق ولبنان، أو الانهيار كاليمن وليبيا، ومن قبل الصومال، أو انسداد الأفق كالسلطة الوطنية الفلسطينية، ومن ورائها حركة حماس المستقلة بغزة.

ووفقاً لأدبيات النظم الإقليمية، فإنها مثل الكائن الحى، يمكن أن تقوى وتصبح قوة فى حد ذاتها كالاتحاد الأوروبى، أو تضعف وتفقد دورها وفاعليتها كالجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامى، أو تعمل على تطوير نفسها بتدرج مثل منظمة الاتحاد الأفريقى، ويمكن أن تموت وتصبح أثراً بعد عين. وفى كل الحالات فإن تقييم القوة أو الضعف أو الفناء مرتبط بعناصر شتى، منها توزيع القوة بالمعنى الشامل فى النظام الإقليمى، والتفاعلات البينية بين أعضاء النظام، والقضايا والمشكلات التى تفرض نفسها على دول النظام فى مرحلة زمنية معينة، ومدى تغلغل أطراف خارجية فى شئون الإقليم. وكما هو واضح وظاهر فى مسيرة النظم الإقليمية، فإن هذه العناصر ليست أبدية، وهى تقبل التغير والتحول، ومن ثم يحدث التغير فى قلب النظام، وفى طريقة تفاعله مع نفسه، ومع الغير من الجوار أو فى العالم ككل.

وعودة إلى ما قاله رئيس الاستخبارات الفرنسية، حيث أشار إلى انهيار دول رئيسية بفعل الحروب الدامية التى تجرى على أراضيها، وفشل الحكومات القائمة، وعدم قدرتها على السيطرة على مواطنيها وأراضيها، وظهور كيانات موازية للمؤسسات، فهناك جيوش بدأت كميليشيات تحارب جيوشاً نظامية، ونظراً لفشل الأخيرة فقد استعانت بميليشيات أياً كان الاسم، لكى تعيد السيطرة من جديد على ما فقدته من أراضٍ وسكان وموارد، وهو ما أوحى للرجل بأن الخرائط التى كانت مستقرة، قد أصبحت مهددة، بل وتغيرت أجزاء كبيرة منها.

تغير الخرائط بمعنى نشوء دول جديدة، للأكراد مثلاً فى شمال العراق، وشمال غرب سوريا، وهو ما يعنى استقطاع أراضٍ من دول معينة، ليس هو الشكل الوحيد لشرق أوسط جديد، فقائمة القضايا نفسها تغيرت بشكل جذرى، فالقضية الفلسطينية والصراع مع الدولة الصهيونية، والذى شكل الهم الأول للنظام العربى منذ نشأته وحتى عقد مضى، أصبحت فى ذيل قائمة الاهتمامات الضاغطة، فهناك «داعش» والإرهاب العابر للحدود، وهناك التطرف الفكرى والتراجع الاقتصادى والتحولات فى قمة النظام الدولى واللامبالاة الأمريكية باستقرار حلفائها العرب، وكل هذه القضايا أصبحت ذات أولوية قصوى على الصعيد الفردى لكل دولة، وعلى المستوى الجماعى الكلى، ولعل ذلك يفسر جزئياً دعوة المملكة السعودية إلى بناء حلف إسلامى لمحاربة الإرهاب من 34 دولة، لعل ذلك يقدم درجة حماية أكبر لم تعد موجودة فى النظام العربى العام أو الخليجى الفرعى.

وفى خضم هذه التحولات، بدأت علاقات جديدة بين إيران والغرب، وكذلك أظهرت تركيا نزعتها التوسعية بشكل لا يحتمل التأويل. وكلا الأمرين يضغط، وإن بشكل مختلف على النظام العربى، وعلى دوله الرئيسية تحديداً، فالاتفاق النووى الإيرانى الغربى، وإن فتح باب قيام إيران الإسلامية بقيادة خامنئى بدور شرطى الخليج، ولو بعد حين، كما كان الوضع فى السبعينات من القرن الماضى فى عهد الشاه، ووفر لطهران ضوءاً أخضر بالاستمرار فى سياستها الخارجية ذات النهج التوسعى الفوضوى الطائفى، ولم يقدم حلاً جذرياً ونهائياً للبرنامج النووى الإيرانى، بل أجّل الأمر لمدة 15 عاماً وحسب، أما تركيا وبعد أن فشل رهانها فى الالتحاق بذيل الاتحاد الأوروبى، كما فشل رهانها فى السيطرة على مفاصل النظام العربى، ممثلاً فى سوريا من خلال تأجيج الحرب الأهلية فيها وفى مصر من خلال دعم جماعة الإخوان فى اعتلاء السلطة، ثم تسليم المصير إلى قيادة أردوغان، وفى ليبيا التى انزلقت إلى فوضى بلا سلطة مركزية، فإذا بها تغير استراتيجيتها وتتجه إلى أطراف العالم العربى، وتستخدم فى ذلك التفاعلات العسكرية بمعناها الواسع، ففى قطر أنشأت أنقرة قاعدة عسكرية قيل إنها لمواجهة الأعداء المشتركين لكل من قطر وتركيا، وفى العراق توغل الجنود الأكراد فى شمال البلاد تحت زعم حماية معسكر للتدريب يقيم فيه جنود أتراك، وأخيراً فى الصومال التى أعلن قبل ثلاثة أيام عن قرار إنشاء قاعدة عسكرية تركية فى خليج عدن ستعمل ابتداء من الصيف المقبل من أجل تدريب 1500 جندى صومالى. وخليج عدن متداخل مع المدخل الجنوبى للبحر الأحمر ممثلاً فى باب المندب. واختيار الموقع لا يمكن أن يكون اعتباطياً، فهذه قواعد عسكرية سيعمل فيها، حسب التقارير التركية، ما بين 200 جندى وضابط تركى إلى 600 أو أكثر، وستكون لها منشآت وستحميها القوات الجوية التركية.

التحركات التركية بهذا الشكل تذكرنا بالاستراتيجية الإسرائيلية التى أقرها بن جوريون فى الخمسينات من القرن الماضى، والتى كان قوامها إحاطة الدول العربية بحزام إسرائيلى يستند إلى نسج علاقات قوية مع الدول غير العربية الملاصقة جغرافياً للعالم العربى كنوع من الضغط غير المباشر والحصار ومنع انتشار النفوذ العربى. لكن تركيا تشيد هذه العلاقات الاستراتيجية العسكرية مع أطراف عربية، قطر والصومال، والجامع بينهما أنهما من أطراف النظام، وليس من قلبه، ودلالة الاختيار ببساطة أن تركيا تقول للعرب إنها قوة إقليمية فى طريقها، لكى تصبح قوة عالمية، وهو ما يحلم به أردوغان. والحق أن قرار تركيا بالهيمنة على الصومال والوجود العسكرى فى خليج عدن، الذى يمثل أهمية كبيرة لدول مثل السعودية ومصر لا يقل خطورة عن قرار إيران بالتغلغل فى الشأن اليمنى من خلال حركة الحوثيين، وكلا التطورين يخصم من النظام العربى، ويثبت أن تقاعس القوى الرئيسية فى الإقليم العربى عن اتخاذ قرارات محسوبة فى الوقت المناسب، مثل إنشاء قوة ردع عربية جماعية، يؤدى فى النهاية إلى زيادة الضغوط على مجمل النظام. والسؤال: ألم يكن هناك جيش عربى يمكنه أن يقدم التدريب المطلوب لنواة جيش صومالى حديث؟ أم أن غياب الرؤية والاستخفاف بالمصالح العربية الجماعية أصبح تقليداً لا يمكن الاستغناء عنه؟