خـطاب الخطا

كتب: محمود درويش

خـطاب الخطا

خـطاب الخطا

1- إذا زادت المفردات عن الألف، جفّت عُروق الكلام وشاع فساد البلاغة.. وانتشر الشعر بين العوام وصار على كل مُفردة أن تقول وتُخفى ما حولها من غمام فأنْ تمدح الورد معناه: أنك تهجو الظلام وأنْ تتذكر برق السيوف القديمة معناه: أنك تهجو السلام وأنْ تذكُر الياسمين كثيراً، وتضحك معناه: أنك تهجو النظام ولا تستطيع الحكومة شنق المجاز، ونفى الأسى عن هديل الحمام.. وبين الطباق وبين الجناس تقول القصيدة ما بيننا من حُطام وتنشئ عالمها المستقل، وتهرب من شرطتى والزحام وتخلق واقعها فوق واقعنا، أو تجردنا من سياج المنام فيصبح حُلم الجماهير فوضى، ولا نستطيع التدخل بين النيام.. أنا سيد الحُلم! لا تحلموا حول قصرى بغير الطعام ولا تأذنوا للفراشات بالطيران الإباحى فى لغة من رخام.. .. فمِن لغتى تأخذون ملامح أحلامكم مرة كل عام ومن لغتى تعرفون الحقيقة بين لفظين: حلال، حرام فلا تبحثوا فى القواميس عن لغةٍ لا تليق بهذا المقام فإن زادت المفردات عن الألف عَمَّ الفساد.. وساد الخراب لأنّ الكلام الكثير غُبار الذُباب وأنّ نظام الخطاب خطابُ النظام.. 2- وفى لغتى قوتى. واقعى لغتى. واقعى ما يقول الخطاب فقد تربح النظرية ما يخسر الشعب. والشعب عبد الكتاب وليس على النهر أن يتراجع عما فتحنا له من سياق وغاب سنَجرى معاً فوق موج الدفاع عن الاندفاع الكبير لفكر الصواب وماذا لو اكتشف القوم أن الدروب إلى الدرب معجزة من سراب! وماذا لو ارتطم البرُ بالبحر، والبحرُ بالبحر، وامتد فينا العُباب! إلى أين يا بحرُ تأخذنا؟ والخطاب يواصل خطبته فى اليباب أنرجع من حيث ضعنا؟ إلى أين يرجع هذا الكلام.. إلى أى باب؟ قطعنا كثيراً من القول، فليتبع الفعل خطوتنا فى طريق العذاب ولكن، إلى أين نرجع يا بحر؟ والبر ذاكرة صلبة للسحاب قطعنا قليلاً من الفعل، فليملأ القول ساحة هذا الخراب ليسرِ الخطابُ على موت أبنائنا الغائبين.. ويعلو الضباب إلى شرفة القصر.. والمنبر الحجرى المُغطى بعشب الغياب ولا تسألوا: مَن يُذيع الخطاب الأخير، أنا؟ أم خطاب الخطاب؟ فقد يصدق القول، قد يكذب القائلون، ويحيا الغبار، ويفنى التراب وقد تجهض الأم حين تشك بأن الجنين ابنها، ليعيش الخطاب خطابى حريتى. باب زنزانة من ثلاثين مفردة لا تصاب بصدمة واقعها، لا تغير إيقاعها، لا تقدم إلا الجواب كلامى غاية هذا الكلام خطابى واقع هذا الخطاب لأن خطاب النظام نظام الخطاب.. 3- خطابى شد المسافات بين الكلام وبين معانى الكلام إذا جفّ ماءُ البحيرات، فلتعصروا لفظة من خطاب السحاب وإن مات عُشب الحقول، كُلوا مقطعاً من خطاب الطعام وإن قصّت الحرب أرضى، فلتُشهروا مقطعاً من خطاب الحسام ففى البدء كان الكلام، وكان الجلوس على العرش، فى البدء كان الخطاب سنمضى معاً، جثةً جثةً، فى الطريق الطويل على لغة مِن صواب وماذا لو ابتعد الفجر عنا، ثلاثين عاماً وخمسين عاماً.. ونام! أمَا قلت يوم جلست على العرش إنّ العدو يريد سقوط النظام وإنّ البلاد تروح وتأتى؟ وإنّ المبادئ ترسو رسو الهضاب! وإنّ قوى الروح فينا خطاب سيبقى، ولم يبق غير الخطاب! فلا تُسرفوا فى الكلام لئلا تبدد سلطة هذا الكلام ولا تدخلوا فى الكناية كى لا نضل الطريق، ونفقد كنز السراب ولا تقربوا الشِعرَ، فالشِعرُ يهدم صرح الثوابت فى وطن من وئام وللشعر تأويله، فاحذروه كما تحذرون الزنى، والربا، والحرام.. .. وإن زادت المفردات عن الألف، باخ الكلام وشاخ الخطاب وفاضت ضفاف المعانى ليتضح الفرق بين الحَمام وبين الحمام .. وفى لغتى ما يدير شئون البلاد، ويكفى لنصمد خمسين «عام» ويكفى لنستورد الخبز، يكفى لنرفع سيف البطولة فوق السحاب .. وفى لغتى ما يعبر عن حاجة الشعب للاحتفال بهذا الخطاب فلا تُسرفوا فى ابتكار الكثير من المفردات، وشدوا الحزام على لغة قد تصاب بداء التضخم.. شدو الحزام فإن ثلاثين مفردةً تستطيع قيادة شعب يحب السلام. وإن خطاب النظام نظام الخطاب..