خطـاب الضـجـر!

كتب: محمود درويش

خطـاب الضـجـر!

خطـاب الضـجـر!

ضجر ضجر ألا تشعرون ببعض الضجر؟ فمِن سنة لم أجد خبراً واحداً عن بلادى أما من خبر! نُغيّر تقويمنا السنوى، وننقُش أقوالنا فى الرخام وندفنها فى الصحارى ليطلع منها المطر على ما أشاء من الكائنات.. وأحمل عاصمتى فوق سيارة الجيب كى أتحاشى الضجر .. وما من خبر! وأكتب فى العام عشرين سطراً بلا خطأ نحوى وتعرف، يا شعب، أنى رسول القَدَر وأُلغى الزراعة، أُلغى الفكاهة، أُلغى الصحافة، أُلغى الخبر. .. وما من خبر! وأختصر الناس: أسجن ثلثاً وأطرد ثلثاً وأُبقى من الثُلث حاشيةً للسمر .. وما من خبر! وأطبع وجهى من أجلكم فوق وجه القمر لكى تحلموا مثلما أتمنى لكم: تصبحون على.. وما من خبر! وأمنع عنكم عصير الشعير.. لأن الشعير طعام الحمير.. وأنتم أرانب قلبى، كلوا ما تشاؤون من بصل أخضر أو جزر .. وما من خبر! وأمرضُ، أو أتمارض، أخلو إلى الذات أو أتفاوض سراً مع المعجزات وأحرم نفسى من الكاميرا والصور .. وما من خبر! أوحد ما لا يوحَد: أحرس إيوان كسرى وأدعو إلى وحدة المسلمين على سيف قيصر «أرشى» ملوك الطوائف.. أمحو شرائع سومر أمنح أفريقيا صوتها.. وأعيد النظر بتاريخ فكر البشر .. وما من خبر! وأغلق كل المسارح: لا مسرح فى البلد ولا سينما فى البلد ولا مرقص فى البلد ولا بلد فى البلد ولا نغمٌ أو وتر .. وما من خبر! ضجر ضجر.. وحيدٌ أنا أيها الشعب، شعبى العزيز.. ولكن قلبى عليك، وقلبك من فلز أو حجر أضحى لأجلك، يا شعب، إنى سجينك منذ الصغر ومنذ صباى المبكر أخطب فيكم وأحكمكم واحداً واحداً وفى كل يوم أعدُّ لكم «مؤتمر».. فمن منكم يستطيع الجلوس ثلاثين عاماً على مقعد.. واحد دون أن يتخشب.. من منكم يستطيع السهر.. ثلاثين عاماً ليمنع شعباً من الذكريات وحب السفر؟ وحيدٌ أنا أيها الشعب: لا أستطيع الذهاب إلى البحر.. والمشى فوق الرصيف.. ولا النوم تحت الشجر ثقيل هو الحكم.. لا تحسدوا حاكماً أىُّ صدر تحمل ما يتحمل صدرى من الأوسمة؟ وأىُّ فتى منكم يستطيع الوقوف.. ثلاثين عاماً على حافة الجمجمة؟ وأىُّ يدٍ دفعت مثلما دفعتْ يدنا من خطر ضجـر ضجـر يخيل لى، أيها الشعب، يا صاحبى أن حقى على الله أكبر من واجبى ولكننى لا أريد معارك أكبر منكم، كفانا الضجر «جراداً» يحط على الوقت، يمتص خضرة أيامنا ويفتح وقت الرمال رمالاً من الوقت نمشى على الرمل، لا أثر.. لا أثر ومن واجبى أيها الشعب أن أتسلى قليلاً.. فمن يعيد إلى ساحة الموت أمجادها؟ اخطئوا، اخطئوا واسرقوا، واحرقوا، وافسقوا لأقطع كفاً، وأجدع أنفاً، وأدخل سيفاً بنهد نهد وأجعل هذا الهواء «إبر» وأنسى همومى فى الحكم، أنسى التشابه بينى.. وبين الملوك القدامى. وأنسى العبر.. أما من فتى غاضب فى البلد! أما من أحد تقاعس عن خدمتى، أو بكى، أو جحد! أما من أحد شكا أو كفر! أما من خبر ضجر ضجر وحيدٌ أنا، أيها الشعب، أعمل وحدى ووحدى أسنُّ القوانين، وحدى أحوِّل مجرى النـهر أُفكر وحدى.. أُقرر وحدى. فما من وزارة تساعدنى فى إدارة أسراركم.. ليس لى نائب لشئون الكناية والاستعارة ولا مستشار لفك طلاسم أحلامكم عندما تحلمون ولا نائب لاختيار ثيابى، وتصفيف شعرى، ورفع الصور ولا مستشار لرصد الديون فوالله، والله، والله، لا علم لى بمالى عليكم.. ومالى عليكم حلال، حلال كلوا ما أُعدّ لكم من ثمر وناموا كما أتمنى لكم أن تناموا.. ودودين بعد صلاة العشاء وقوموا من النوم حين يُنادِى المنادى بأنى رأيت السحر وسيروا إلى يومكم آمنين.. ووَفْق نظام كتابى ولا تسألوا عن خطابى سأمنحكم عُطلة للنظر بما يَسّرَ اللهُ لى من خطاب الضجر ضجر ضجر سلام علىَّ.. سلام عليكم سلام على أمة لا تمل الضجر..