إسلام البحيرى.. ليس الأول ولا الأخير

رفعت السعيد

رفعت السعيد

كاتب صحفي

المعركة بين التجديد والجمود دائمة ومستمرة وسوف تستمر أبداً.

فالقرآن الكريم، النص المقدس فى ذاته، أتى فى بعض الأحيان غامضاً بقصد من سبحانه وتعالى ليفرض على المسلم إمعان العقل فى فهم ما أتى من غموض. فمثلاً أن تبدأ سور منه بأحرف مثل «ألــم» و«كهيعص» فالمتأمل صافى القلب ليس أمامه إلا أن يقول فى تفسير ذلك «لا أعرف» أو أن يعمل عقله باحثاً عن المعنى الغامض والكامن فى بعض الآيات القرآنية. من هنا كانت ضرورة التفسير وضرورة التأويل، وكلمه تفسير جاءت فى القرآن مرة واحدة أما كلمة تأويل فقد أتت عشر مرات. وهذا بذاته يحتاج إلى تأويل.

ونلجأ إلى القواميس لنفهم الفارق والمقصود.

فالتفسير هو الشرح، فيقال فسّر أى شرح أو أوضح وأبان. والطبيب فسر المرض أى فحص المريض وتعرف على الدواء. وفسر القرآن أى أوضح معانيه. لكننا نواجه بأن أول كتاب لتفسير القرآن كان لمحمد بن جرير الطبرى، لكن الطبرى سمّى كتابه «جامع البيان عن تأويل القرآن» وهكذا اختلط التفسير بالتأويل. والإمام السيوطى يقدم التفسير مرتبطاً بالتأويل فالتفسير هو شرح معانى الكلمة المفردة والتأويل يبحث عن المعانى الكامنة فى النص القرآنى. ويقول نصر حامد أبوزيد إن التفسير يشبه ترجمة اللفظ بصورة أبسط حتى يمكن فهمه بشكل أوضح. ونعود إلى سيدنا على بن أبى طالب ونقرأ «القرآن بين دفتى الكتاب لا ينطق وهو مكتوب وإنما ينطق به البشر وهو حمّال أوجه» و«حمّال أوجه» هذه تفتح الباب واسعاً أمام التأويل. لكن الكثيرين كانوا ولم يزالوا يرفضون إعمال العقل ويعتبرون أن «التأويل» هو مجرد هرطقة وخروج عن صحيح الدين. برغم الحديث الشريف «إن الله يبعث على رأس كل مائة من السنين لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها» وحتى الآية القرآنية فى سورة آل عمران والتى تقول صراحة «وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا» استخدمها دعاة إغلاق العقل لمنازعة لم تزل مستمرة فهم يضعون خاتمة للآية بعد «وما يعلم تأويله إلا الله» ويقولون إن التأويل قاصر على سبحانه وتعالى بينما يرى القائلون بضرورة إعمال العقل فى فهم المغزى الكامن فى الآيات عبر التأويل أن حرف «و» الذى يسبق «الراسخون فى العلم» هو واو العطف بما يعنى مشاركة «الراسخون فى العلم» فى التأويل. وبدون التأويل فتح الباب أمام المفسرين ليأتوا بشروح مليئة بأقاويل وأباطيل خاطئة فلا أحد يقول الكلمة الحكيمة «لا أعرف» كما قالها عمر بن الخطاب عندما سئل ما معنى كلمة «أب» فى الآية «وفاكهة وأبا» فقال ببساطة وتواضع المسلم الحقيقى «لا أعرف»، وفتح المفسرون باباً واسعاً للخرافة مثل حديثهم عن فلك نوح «بُنى من عظام حيوان طوله ما بين السماء والأرض وعرضها مسيرة عام كامل» وتتجاوز الخرافة كل حدود العقل فى شرح أحدهم لكلمتى «يأجوج ومأجوج» فوصفوا كائنات وصفاً لا يقبله عقل. وهكذا يفرضون على المسلم تناقضاً فادحاً بين الإيمان بما يزعمون أنه مقصود القرآن وبين العقل فينشأ الجهل والتأسلم ويتفشى التخلف بإيقاف فعل العقل.

والحقيقة أن التأويل ليس قاصراً على فهم النص القرآنى وإنما لجأ إليه العلماء المسيحيون، فجاليليو مثلاً شاهد عبر التليسكوب الذى اخترعه كواكب تدور حول المشترى وهو ما يعزز فكرته عن دوران الأرض وكرويتها. وعندما اتهم بالكفر كتب «إن الكتب المقدسة ليست موضع شك ولكن الخطأ يأتى من الذين يفسرونها على أساس المعنى الحرفى للكلمات، فالتفسير الحرفى يعنى أن الله له أرجل وأياد وعيون وكذلك الأحاسيس الجسدية التى للإنسان كالغضب والندم والحقد ونسيان ما كان فى الماضى والجهل بما سيحدث فى المستقبل وكل هذا خطأ. وإذا سأل أحدهم لماذا أتت الكتابات المقدسة هكذا فالإجابة هى لكى تتلاءم مع القدرات الضعيفة لغالبية الناس». ولهذا يتعين على علماء التفسير قراءة المعانى مجازياً والبحث عما يكمن وراء اللفظ. وأكد جاليليو أن كثيراً من عبارات الكتاب المقدس تحتاج إلى التأويل والابتعاد بها عن المعنى الظاهر إلى المعنى الخفى والمحتمل.. وتبقى عبارة جاليليو الشهيرة «إن الكتاب المقدس يعلمنا كيف نذهب إلى السماء وليس كيف هى السماء» نموذجاً لهذا التأويل.

وعن المسلمين وإذ نحاول أن نبدأ من البداية نقرأ «وأول من قال بالتأويل هو الجعد بن درهم، فقد أنكر ما قيل عن الصفات الإلهية إذ قال إن القرآن مخلوق وقال بتأويل بعض ما ورد فى القرآن، فأكد أن الله لم يكلم موسى تكليماً ولا اتخذ من إبراهيم خليلاً، ووقتها كان مقيماً بالكوفة فإذا بوالى الكوفة خالد ابن عبدالله القسرى يقف على المنبر ليلقى خطبة عيد الأضحى واختتمها قائلاً: «انصرفوا وضحوا بضحاياكم تقبل الله منكم، أما أنا فإنى أريد أن أضحى اليوم بالجعد بن درهم»، ثم نزل وكان قد أجلس الجعد إلى جواره فذبحه أسفل المنبر (ابن نباته المصرى- سرح العيون فى شرح رسالة ابن زيدون- صـ186). أما ابن كثير فقد علق على هذه الواقعة قائلاً: ومن بعدها حرص كل من قال بالتأويل على أن يضيف إلى تأويله عبارة «بما لا يخالف شرع الله» (تاريخ ابن كثير- الجزء التاسع- صـ350).

ويمكن القول دون تردد إن علاقة الجعد بن درهم ووالى الكوفة خالد بن عبدالله القسرى ظلت ماثلة فى أذهان الكثيرين لآماد طويلة وربما تمادت حتى الآن.

وهنا نتذكر مأساة إسلام البحيرى الذى جازف بالتأويل، والحقيقة أن التأويل، وهو ضرورى وحتمى، يفتح الباب واسعاً أمام رؤى مختلفة فيكون أمامنا عشرات الآراء المختلفة بل المتناقضة وقد يأتيها بعض من شطط وبهذا يقول ابن رشد «سيكون هناك أكثر من رأى وكل منها نقبله فالتأويل فكر شخصى ويقبل ولا مجال لتكفير. فالمسارعة بالتكفير تغلق باب الاجتهاد».

وأياً كان ما قاله إسلام البحيرى فهو رأى ولو كان به شطط فإن رحابة صدر الدين المقدس تتقبله حتى لو كان مرتكباً لكبيرة «فمرتكب الكبيرة ليس كافراً ولا هو معفو عنه وحسابه عند ربه»، وهكذا قال الأشاعرة.

فهل نبقى مع العقل أم...؟