منظمات المجتمع المدنى.. مخلصون.. ومرتزقة (2-2)

رفعت السعيد

رفعت السعيد

كاتب صحفي

إذا كان الهدف الأساسى لمنظمات المجتمع المدنى هو تحريك الرأى العام وتجميعه باتجاه النهوض بالحريات والديمقراطية والعدل الاجتماعى ورفض الظلم والتمييز الدينى والعنصرى والفئوى، فإن الحرف الأول فى هذه المهمة جاء من أبينا وأستاذ كل الليبراليين العرب الشيخ رفاعة الطهطاوى الذى قال فى كتابه «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز»: «إن للرأى العمومى سلطاناً قاهراً على قلوب الحكام».. وهذه الدعوة الحديثة سبقتها أشكال من التجميع البدائى للطوائف وشيوخ الحرف وفتوات الحارات. لكن الشكل المنظم أتى مع إرهاصات الثورة العرابية حيث نظم العرابيون حملة جمع توقيعات لتفويض «رجال العسكرية» فى المطالبة بحقوقهم. وكان الأفغانى قد اتخذ مما سماه «محفل الشرق الماسونى» ستاراً جمع عبره عديداً من الأعيان والمتعلمين من المصريين والشوام وجعلوا لكل نظارة وزيراً ظل يتابع أعمالها ويحدد أسلوب حركة المحفل تجاهها. كما تشكلت فى عهد توفيق عدة جمعيات أهلية لنشر التعليم وتشجيع الفنون ومنها مثلاً «الجمعية الخيرية الإسلامية» التى أسسها عبدالله النديم وأسس فى إطارها فرقة مسرحية كانت تقدم مسرحيات هادفة وتحرض ضد الخديوى توفيق. ومنها مسرحية «السعد وطالع التوفيق» التى دُعى لحضورها الخديو توفيق. وفى المسرحية هجوم مكشوف عليه وكان يطلق عليه فيها «الواد الأهبل» و«الديك الرومى».. وكان توفيق الساذج يضحك مما زاد من ضحك الناس عليه حتى لفت نظره رئيس النظار رياض باشا فألغى المسرحية، وكانت هناك جمعيات مسيحية تستهدف نشر التعليم المدنى وتشارك مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية فى هذا النشاط. وفى مطلع القرن العشرين أقام الحزب الوطنى نقابة الصنائع اليدوية وكانت تدير فصولاً لمحو أمية العمال وتنظم لهم دروساً فى التاريخ، كما أسس حركة للجمعيات التعاونية، وأقام العمال منظمات سرية منها «جمعية بؤساء السكة الحديد» و«جمعية الصناديق الحمراء» التى كانت تجمع تبرعات من المواطنين لمساندة العمال المضربين عن العمل. وخلال ثورة 1919 تأسست عدة جمعيات سرية، منها «اليد السوداء». كما تأسست جمعيات نسائية لتشجيع حركة السفور. ومع بناء سد أسوان وغرق قرى النوبة ونزوح الكثيرين إلى القاهرة والإسكندرية تأسست لكل قرية جمعية خيرية تنظم عملية التضامن المجتمعى لمجتمع نوبى مضطهد نهبت حكومة صدقى تعويضاته عن قراهم الغارقة (15 مليماً للنخلة المثمرة). ثم مع انهيار دولة الخلافة بدأ الدعوة لاستعادتها وتأسست جمعية الشبان المسلمين وتأسست لها فروع فى فلسطين والشام. كما وجدت شبكة من المنظمات الاجتماعية المسيحية «جمعية الشبان المسيحية»، «جمعية الكتاب المقدس»، و«ثمرة الحياة القبطية»، و«مدارس الأحد». ومع صعود الحركة الفاشية والنازية بدأت مجموعات المثقفين والرسامين والفنانين فى التجمع دفاعاً عن الديمقراطية والفكر الحر فكان «بيت الفن» (فى درب اللبانة) وفيه تكونت مجموعة «الحرافيش» كما تكونت مجموعة من الأندية الفكرية التى تستحث الرأى العام على التحرك المستنير: «النادى الديمقراطى»، «حركة أنصار السلم»، «الفن والحرية». وفى مطلع الأربعينيات من القرن العشرين قامت عشرات الجمعيات اليسارية: «الفن للحياة»، «الفن معمل بارود»، «جماعة الوضوح»، «ثقافة وفراغ»، «نحن أنفسنا»، «رابطة نشر الثقافة الحديثة»، «دار الأبحاث العلمية»، «رابطة خريجات الجامعة». وقد لعبت هذه الجمعيات دوراً إيجابياً فى تحريك الوعى والفكر واحترام العقل والعلم والعمل الوطنى ضد الاستعمار والرجعية المحلية.

ثم نأتى إلى مرحلة العولمة وما سميناه فى المقال السابق «تبادل الأزياء» إذ تدخل الغرب بزعم الدفاع عن الحريات فى شأننا الداخلى وصب تمويلات ضخمة على جمعيات تزعم أنها تدافع عن الديمقراطية والحريات بينما يتحدد جدول أعمالها من جانب من يدفع، ويستخدمهم خصومنا حتى للدفاع عن مجرمى الإرهاب المتأسلم وللتهجم على قضائنا الشامخ.. فتحولت الدعوة لحقوق الإنسان إلى «بيزنس»: «حقوق إنسان، حقوق طفل، حقوق مرأة». وهذه اللافتات جميلة ومفيدة وضرورية شرط ألا تكون حصان طروادة للعدو. والذى يفضح أصحاب «البيزنس» أن الأسرة الواحدة «تمتلك» عدة جمعيات ليكون لها عدة تمويلات.

وأنا ممن يعتقدون أن العمل المدنى ينبغى أن يكون عملاً تطوعياً ولا يستهدف الإثراء. بينما نرى حتى المجلس القومى لحقوق الإنسان، وفيه شخصيات محترمة وتقوم بدور لا بأس به لكنه تحول هو أيضاً إلى «سبوبة» مرتبات كبيرة ووفيرة وللبعض سيارات وسائقين. وأنا ممن يعتقدون أن مصر فى أمس الحاجة إلى منظمات نقية للمجتمع المدنى وممن يرفضون التدخل الحكومى والأمنى فى تكوين وتشكيل الجمعيات الأهلية، لكننى أيضاً أرفض التربح والإثراء المريب المقبل من الغرب الذى نجح فى اختراق صفوف النخبة المصرية ومنها كثير من النخبة اليسارية للأسف الشديد لكى يزعموا القيام بواجبات جزئية: محو أمية، مرأة، طفل، حقوق إنسان... وألف اسم واسم، وكل هذا ضرورى لكنه لا يشكل أى قدرة على النهوض المجتمعى الشامل، ولنتخيل سيارة جرى تفكيكها قطعاً صغيرة هل تستطيع الحركة؟ بل هل هى سيارة أصلاً؟ ومن هنا نكتشف سر هجوم هذه الجماعات على الأحزاب السياسية وسر الحملة الإعلامية عليها. لأن حصان طروادة لا يريد تغييراً مجتمعياً شاملاً ينهض بمصر. وأنا أعرف أنه لا نشاط أهليّاً بلا تمويل وأعرف أن سادتنا المليارديرات لا يدفعون إلا من قبيل الإعلان عن طيبة قلوبهم الحجرية.. والحل عندى هو ضرائب تصاعدية تعطى الدولة قدرة تمويلية قد تمنح بعضها للجمعيات الجادة والنقية، وهذه الضرائب ستكون بذاتها حافزاً لكى ينفق المليارديرات بعضاً مما يكسبون كى تنخفض شريحة الضرائب فيكسبوا من تمويل منظمات مجتمعية نظيفة، ويبقى أن أحذر مرة أخرى وثانية وعاشرة من التهور الأمنى والحكومى بفرض حصار على كل الجمعيات. فمصر بحاجة إليها والرأى العام يريد أن يخدم مصر عبرها ووجودها بذاته مظهر ومصدر لتحريك المجتمع والرأى العام حركة حيوية وجادة ومفيدة.