سد النهضة ومباحثات الفرص الضائعة

حين بدأت أولى جلسات المفاوضات بين مصر وإثيوبيا والسودان فى ثوبها الجديد فى شهر أغسطس من العام الماضى، أى منذ 17 شهراً كاملة، ونحن لم نترك خطأ إلا وارتكبناه، ولا فرصة إلا وأضعناها. فى أول جلسة للمفاوضات دعت مصر الجانبين السودانى والإثيوبى للاجتماع فى القاهرة طبقاً لما اتفق عليه الرئيس المصرى ورئيس الوزراء الإثيوبى قبلها بشهرين فى مالابو، عاصمة غينيا الاستوائية، إلا أن إثيوبيا اعترضت وأصرت على نقل المباحثات للخرطوم باعتبار السودان دولة محايدة وكأن إثيوبيا تشير إلى أنها مباحثات حرب. وللأسف رضخت مصر ووافقت، وبالتالى بدأت إثيوبيا فى الإحساس بقيادتها للمباحثات وتبعية مصر والسودان. وعندما عاد الوفد الإثيوبى إلى بلده وجد الصحافيين فى انتظاره بمطار أديس أبابا يسألون بثقة كبيرة: هل سيتم إيقاف العمل فى السد إلى حين التوافق مع مصر على مواصفات السد؟! وكانت إجابة وزير الرى الإثيوبى: ولمَ نوقفه ومصر لم تطلب ذلك!!

الفرصة الثالثة جاءت بعدها بشهر حين أصر وزير الرى المصرى على زيارة موقع سد النهضة وتفقّد سير العمل به رغم الحملة المصرية المقاومة لهذه الزيارة والتى نصحت بعدم إتمام الزيارة لأنه ما زال سداً خلافياً وقد يخلق صراعات كبيرة فى المستقبل القريب، بالإضافة إلى استغلال إثيوبيا الأكيد للزيارة وتصوير الوزير المصرى بجوار سدها ونشر الصور فى الصحف العالمية مروجة للشفافية الإثيوبية مع دولة المصب والتلميح إلى الموافقة الضمنية المصرية على السد بدليل زيارة وزيرها! أصر الوزير المصرى على الزيارة والتصوير بجوار السد، وكان ذلك انعكاساً لرأى أهل الخبرة فى مصر بأن مصر فى طريقها إلى الموافقة على تمرير السد.

اتفقت الأطراف الثلاثة بعد ذلك على انتداب مكتب استشارى ليقوم بمراجعة الدراسات الإثيوبية حول تأثير السد الضخم على البيئة والأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والتدفقات المائية على دولة المصب وأن تنتهى دراسته خلال خمسة أشهر فقط فى فبراير 2015 حتى يمكن تغيير مواصفات السد طبقاً لهذا التقرير. مرت الأشهر الخمسة وجاء شهر فبراير ولم يتم التوافق على مكتب استشارى ولا حتى طرحه فى مناقصة عالمية، ثم فوجئنا بطلب إثيوبى سودانى مشترك بألا تقل فترة عمل المكتب الاستشارى عن 15 شهراً منها 11 للمكتب الاستشارى ثم أربعة أشهر لخبير دولى فى حال طعن إحدى الدول على تقرير المكتب الاستشارى السابق ثم فى النهاية لا تكون توصيات هذا المكتب والخبير الدولى ملزمة لأى دولة لأنها ليست دراسات تحكيمية ولا دولية!! ورغم غرابة الموقف وقيام إثيوبيا بتحديد زمن عمل المكتب الاستشارى، وليس المكتب الاستشارى نفسه، فإن مصر وافقت أيضاً خوفاً من انسحاب إثيوبيا من المباحثات فى انصياع جديد للإرادة الإثيوبية وكأن مصر ليست بدولة كبرى ولا عريقة ولا قوية وإنما أصبحت دولة تابعة. وبعد أن رضينا بالهم الذى لم يرضَ بنا، ومنذ فبراير وحتى ديسمبر 2015، لم يتم التوافق على المكتب الاستشارى بسبب إبداع إثيوبيا فى الوقيعة بين المكتبين والعمل على ألا تبدأ عملها أبداً نقلاً عن الاستراتيجية التركية التى طبقتها بنجاح مع سوريا والعراق أثناء بناء سد أتاتورك العظيم والتى أدت إلى إنقاص حصة البلدين بمعدل 25 مليار متر مكعب وما زالت المفاوضات مستمرة حتى الآن رغم انتهاء العمل فى السد ومن بعده عشرة سدود خلفه. الاستراتيجية الإثيوبية التركية المشتركة هى مفاوضات لا تنتهى أبداً وعمل فى السد لا يتوقف، وننتهى من سد ونبدأ فى الآخر.

الطامة الكبرى بدأت فى شهر مارس الماضى حتى فوجئنا بتبنى أحد قيادات وزارة الخارجية الشابة فكرة اعتراف مصر بسد النهضة دون مقابل، وسيطرته على الأمور، واختيار اللجنة القانونية التى يمكنها تمرير الأمر وإقناع وزارة الرى بأن الاعتراف بالسد أفضل لمصر وبلا مقابل وبلا تحفظات أو شروط، وهو اعتراف مطلق لا يخضع أبداً لأى دبلوماسية وما زلنا حتى الآن نتعجب من سبب استعجال مصر بالاعتراف بالسد دون أدنى داع لذلك وبما يفقدها القدر الأكبر من المناورة وينهى الرعب الإثيوبى من احتمالات الخيار المصرى العسكرى ضد السد، وتوفيرها لنفقات مالية كثيرة فى التسليح تقلل من قدراتها المالية الموجهة لبناء السد، وفى المقابل وضعت مصر نفسها فى يد إثيوبيا وقبضتها وتصبح تحت رحمتها. من يقرأ إعلان المبادئ، والذى كنت الوحيد الذى عارضته وبقوة، يستشعر أن إثيوبيا وحدها هى التى كتبت جميع بنوده العشرة، وبانحياز كبير، سواء فى فرض السيادة المطلقة على جميع أنهارها أو تسمية النيل بالنهر العابر للحدود أو عدم التحفظ على مواصفات السد وارتفاعه وسعة تخزينه أو اشتراط عدم الانصياع للتقرير الاستشارى، أو حتى مبدأ التعويضات التى تقدّرها إثيوبيا وحدها بل ووقت أن تسمح ظروفها والتى لن تسمح أبداً! متجاهلين مبدأ الأمم المتحدة بالإخطار المسبق لبناء السدود على الأنهار فى دول المنابع وألا تكون السدود صغيرة ولا تؤثر على حياة شعوب دول المصب. الآن تتعالى صراخاتنا ونعترف بالأخطاء الجسيمة ونريد أن نتراجع فى كل ما وقّعنا عليه وإيقاف العمل فى السد حتى يتم التوافق عليه، بعد أن أضعنا الفرص تباعاً وأعطينا لإثيوبيا الفرصة بأن تأخذنا فى الحديث عن السد وليس الحديث عن المياه، وجميع دول العالم تتفاوض على المياه وليس على السدود.

السد يبدأ مرحلة الامتلاء فى يونيو المقبل أى بعد ستة أشهر ومصر لم تحصل على أى ضمانات مكتوبة بشأن حصتها من المياه ولا بالمعدلات للتدفقات المائية التى لا ينبغى أن تقل عنها والتى ينبغى لإثيوبيا أن تصرفها من خلف السد، ولا ندرى شيئاً عن التدفقات السنوية ولا موقف مصر أثناء سنوات الجفاف التى تستمر حالياً للسنة التاسعة ولا نصيبنا فى مياه الفيضان، ولا كيف ستمتلئ خزانات السد العالى فى مصر ولا الروصيرس وسنار فى السودان ولا الانتظار لأقرب فيضان غزير يعطى الفرصة لامتلاء هذه الخزانات قبل أن يبدأ التخزين فى السد الإثيوبى الضخم والكارثى.

إنها شهور الفرص الضائعة وغياب العقل المصرى فى المفاوضات.