منظمات المجتمع المدنى.. مخلصون ومرتزقة (1-2)

رفعت السعيد

رفعت السعيد

كاتب صحفي

ما بين الحين والآخر يتجدد الحديث الذى كاد أن يصبح مملاً حول منظمات المجتمع المدنى. ومع اقتراب انعقاد البرلمان والقول بالعمل على إعداد قانون جديد للجمعيّات تطل رؤوس عديدة بعضها مخلص يريد قانوناً ديمقراطياً حقاً وخالياً من سطوة أمنية تخيم على آليات عمله وعلى القائمين بها، وبعضها كحصان طروادة يتخذ من النشاط فى المجتمع المدنى «سبوبة» شديدة الربحية، ولا تتطلب رأسمالاً وإنما فقط غياب الضمير وعلاقات حميمة مع الغرب الذى يسوق حصان طروادة كما يشاء ويوجهه متى يشاء ويتدخل فى شأننا متظاهرًا بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وتتمادى وقاحته لتصل إلى التهجم على نظامنا القضائى الحصن الباقى لنا.

وبين هذا وذاك تدور هذه الكتابة.

ونبدأ مع المجتمع المدنى من بدايته الأولى التى أتت إلى أوروبا مع تفكك المجتمع الإقطاعى وبداية بزوغ مجتمع جديد تسوده البرجوازية الناشئة، ويمكن القول إن البحث فى نشأة المجتمع المدنى هو بذاته بحث فى نشوء حركة النهضة الأوروبية التى كانت تدعو لاستنهاض العقل والعلم وحرية البحث العلمى وفك طلاسم التعارض بين منجزات العلم الحديث وبين المعتقدات الواردة فى الأناجيل والتوراة، بما دفع إلى الأخذ «بالتأويل» على يد جاليليو وإلى استنهاض قوى الرأى العام للتحرك دفاعاً عن حرية الاعتقاد وانطلاق العقل والتسامح والليبرالية، وفى بعض الأحيان اتخذ تعبير «المجتمع المدنى» كنقيض لحكم خاضع للكنيسة ويزعم أنه يتحدث باسم السماء، وفى أحيان أخرى كنقيض لسيطرة القادة العسكريين على السلطة (نابليون مثلاً). وربما كان جان جاك روسو هو الأكثر وضوحاً فى تحديد مفهوم للمجتمع المدنى يستند بالفعل إلى سلطة الرأى العام، فيقول «المجتمع المدنى هو مجتمع الإرادة العامة، أى سيادة الرأى العام عبر الديمقراطية التى تعنى فى جوهرها أن يصوت النائب فى البرلمان ليس ليعبر عن رأيه الشخصى وإنما ليعبر عن رأى من انتخبوه». ويقول فى كتابه «العقد الاجتماعى»: «إن المجتمع المدنى وعبر منظماته المختلفة هو أداة لتدريب المواطنين كى يتفهموا معنى ومغزى الديمقراطية. وهو يستهدف أن يستطيع المواطن العادى أن يتذوق المبادئ الديمقراطية وأن يتحول بذلك إلى جعلها فعلاً واقعياً. وعلى النواب فى البرلمان، قبل أن يصدروا القوانين، أن يتفهموا ويتذوقوا الأثر المترتب على هذه القوانين». بينما يرى «هيجل» أن المجتمع المدنى هو حلقة وسيطة بين مجتمع الأسرة والقبيلة وبين مجتمع الدولة الذى يتخلص من النزعة التقليدية للارتباط بالأسرة والقبيلة والناحية لتحل محلها رابطة المواطنة والمساواة بين المواطنين. ونلاحظ أنه مع استقرار عصر النهضة وانتصار أفكاره وآليات تطوره الاجتماعى والسياسى، بدأت الحاجة إلى تجمعات المجتمع المدنى فى التلاشى حتى اختفت تقريباً ما عدا بعض المنظمات التطوعية التى فرضتها صراعات المجتمع الجديد مثل «الصليب الأحمر». ولعله من المثير للدهشة أن بدأت أفكار المجتمع المدنى ومنظماته وآلياته تفد إلى مصر مع خفوت صوتها فى بلدان المنشأ. وهو أمر سوف نتناوله فيما بعد، لأننا إذ نعود إلى أوروبا وإذ نشأت فيها فى عشرينات وثلاثينات القرن العشرين الحركات الفاشية والنازية التى أشاعت روح العنصرية ثم فرضت إذ حكمت فى إيطاليا وألمانيا حالات من القهر السياسى للخصوم مضافاً إليه قهر مجتمعى وعنصرى (كاضطهاد اليهود والشيوعيين وكل المعارضين السياسيين والاجتماعيين). بما فرض من جديد الحاجة إلى منظمات للعمل الأهلى كان كثير منها سرياً يعمل تحت غطاء برىء المظهر وكانت تعمل فى ظل ظروف قهر وسط رأى عام مضلل ومعبأ فى الاتجاه الخاطئ. ومع انهيار الفاشية والنازية وبدء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتى والمعسكر الاشتراكى وبين الغرب، بدأت عمليات دعم غربى لمنظمات أهلية علنية وسرية لكنها جميعها تستهدف تقويض النظام القائم ولعل أشهرها منظمة «تضامن» بين عمال ميناء جدانسك البولندى بزعامة ليش فاونزا التى استندت إلى دعم قوى جداً من الغرب ومن الكنيسة (التى كوفئت فيما بعد باختيار رئيسها بابا للفاتيكان)، واستطاعت «تضامن» أن تقيم أول حكومة غير اشتراكية فى عام 1989 وسرعان ما تفجرت مؤسسات مماثلة كانت كامنة لفترة من الزمن وتحظى بمساندة مالية وإعلامية من الغرب مثل المنتدى المدنى (تشيكوسلوفاكيا) والمنتدى الديمقراطى (المجر) والمنتدى الجديد (ألمانيا الشرقية). وقبل ذلك كانت هناك حركة ليبرالية وديمقراطية تعمل سراً وسط ضباط الاحتياط فى جيش نظام سالازار الفاشى واستطاعت أن تطيح بالنظام فى 1974. وانتقلت العدوى سريعاً إلى إسبانيا بعد رحيل فرانكو فعاد نظام ملكى ديمقراطى فى 1975.

ثم الغضبة الجماهيرية للرأى العام اليونانى عقب الغزو التركى لشطر من قبرص وتقسيمها فانتفضت الجماهير اليونانية وأطاحت «بالجونتا» العسكرية فى 1976 وأقامت حكماً ديمقراطياً. ويمكن القول إن حركات المجتمع المدنى التى أطاحت بالأنظمة الفاشية فى جنوب أوروبا (البرتغال، إسبانيا، اليونان) كانت تمهيداً لانتفاضات الرأى العام المدعومة من الغرب وبسبب سوء الإدارة والفساد واللاديمقراطية، ضد الأنظمة فى أوروبا الشرقية.

ثم يحدث ما يمكن تسميته بعملية «تبادل الأزياء» بين الغرب الذى أكسبته العولمة وحشية واستغلالا بشعاً لدول الجنوب عبر عمليات التجارة غير المتكافئة وبين دول الجنوب التى ما إن تحررت من الاستعمار حتى أقامت أنظمة معادية للاستعمار والاستغلال الغربى وزعانفه (مثل إسرائيل بالنسبة للبلاد العربية) وتسعى لمنح شعوبها حياة أفضل. وتتمثل عملية تبادل الأزياء فى أن الغرب الاستعمارى لم يزل يمارس أشد أنواع نهب ثروات الجنوب إذ يستلب من الجنوب حيويته فى السعى نحو خير شعوبه ويجرده منها بينما يرتدى زى الدفاع عن الديمقراطية والحريات وعن منظمات المجتمع المدنى، وذلك عبر شبكة من المنظمات يغمرها الغرب بتمويله فتنهض بلافتات حقوق الإنسان، حقوق المرأة، حقوق الطفل، حرية المعتقدات... إلخ.

وبعد هذا نعود إلى «العمل المدنى فى مصر.. نشأته وتطوره واختراقه»، فإلى لقاء.