معارك ناشطى ثورة 19 فى ظل الاحتلال

نائل السودة

نائل السودة

كاتب صحفي

بعدها تماماً استولت على المصريين حالة من فخار شديد وإحساس عظيم بالقوة والقدرة وبذاتهم وذات بلادهم العريقة، فقد تحركوا من سباتهم وخرجوا فى الشوارع وقاوموا الإمبراطوية البريطانية التى لا تغيب عنها الشمس وأجبروها على التنازل.

كان مارس 1919 شهر البعث الوطنى ونهاية شتاء الهيمنة العربية الإسلامية الطويلة التى فرضت على البلاد، ومقدم ربيع التجديد الوطنى كما قال توفيق الحكيم فى عودة الروح التى أنهى كتابتها 1927 بباريس، وكان يشغله خلق صورة لمصر الجديدة تقوم على مكونات مصرية، فأرسل فى ذلك لطه حسين قائلاً كنا فى شبه إغماء لا شعور لنا بالذات، لا نرى أنفسنا ولكننا نرى العرب الغابرين، لا نحس بوجودنا ولكن نحس بوجودهم، لم تكن كلمة أنا معروفة للعقل المصرى، لم تكن فكرة الشخصية المصرية قد ولدت بعد، لقد بدأنا نعى ونحس بوجودنا، بدت الذات المصرية واضحة لا فى روح الكتابة وحدها بل من الأسلوب واللغة أيضاً، ثم أكمل الحكيم حاجة مصر إلى الاستقلال الفكرى أمر لا نزاع فيه وطالب طه حسين بقيادة المثقفين وأول واجب عليكم لنا استخراج أحد العنصرين من الآخر فقط عن طريق التمييز بين ما هو عربى وما هو مصرى.

وهو الأمر الذى رد عليه طه حسين فى كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» بأن مصر شخصية مستقلة ومقاومة مستمرة ومن السخف اعتبارها من الشرق، وأن العقل المصرى عقل أوروبى منذ حضارته الفرعونية وعلاقته بحضارة اليونان ومدينة كالإسكندرية أوروبية لا شرقية، ثم إن المصرى نقل بسلاسة طرق الإصلاح الأوروبى ونظم الإدارة والحكم لدرجة أنه أخذ بنظام الاستبداد الأوروبى لا الشرقى!

وكان لطفى السيد وغيره قد سبقوا طه حسين بتأكيد أن مصر شخصية متفردة.

كان هناك إذن قبل طه حسين بسنوات من أثار مسألة الهوية المصرية الخالصة، وقال حافظ محمود الذى صار نقيباً للصحفيين فيما بعد: «الروح العربية لا وجود لها إلا فى جزيرة العرب».

كانت الخلافة العثمانية الإسلامية قد تحللت وتفككت وفور إلغاء الأتراك لها بدأت حملة تنصيب الملك فؤاد خليفة للمسلمين، واعتبار مصر مقراً للخلافة وشمرت الأهرام والمقطم، التى عرفت بجريدة الاحتلال، عن أكمامهما للدعوة.

وجاءت أولى محاولات ذلك من جانب الأزهر وعلمائه(دائماً فى المقدمة) الذين رفضوا إلغاء تركيا للخلافة واستمروا فى اعترافهم بعبدالمجيد خليفة قبل أن يتراجعوا لأنه غير طليق ودعوا لمؤتمر إسلامى عام وطالبوا الدول الإسلامية بإرسال مندوبيها لاختيار الخليفة ثم دعموا الملك فؤاد، وتكونت للمؤتمر سكرتارية ومندوبون ولجان ومجلس إدارى وأٌرسلت الدعوات باسم شيخ الأزهر، ولكن لجنة مناوئة يرأسها الصوفى أبوالعزايم رفضت هذه الدعوة وأصرت أن لا خليفة إلا عبدالمجيد العثمانى، كما أعاق الوفد الدعوة التى دعمها الملك سراً، فمنعت وزارة الداخلية مشاركة الموظفين فى لجان الخلافة التى أسسها الأزهريون وفشل انعقاد المؤتمر فكرروا دعوة أخرى له 1926 لكنه فشل أيضاً، وتكونت جماعة الإخوان 1928!

وأصدر الشيخ على عبدالرازق كتابه الفاصل (الإسلام وأصول الحكم) قبل ذلك بثلاثة أعوام، وقال فيه صراحة إن الإسلام لا يدعو لدولة وإنه دين فقط لا دولة، وإن الخلافة التى قامت بعد وفاة النبى حتى الآن كانت مفروضة بالقوة أو الخديعة.

كان المصريون أحراراً فى التعبير عن آرائهم تماماً، ففيهم من قال إن مصر فرعونية، وفيهم من قال إنها عربية وفيهم من أصر إنها إسلامية وفيهم من قال إنها مصرية بل من قال إنها متوسطية أوروبية.

ثم إن هناك من دعا إلى تعليم باللغة العربية، ومنهم من دعا أن يكون بالإنجليزية (سعد زغلول استنكر طلب التعريب)، ومنهم من قال بالاستقلال وفيهم من طلب استمرار التبعية بل والاحتلال، ولكن مصر انتصرت وتأكدت هويتها الخالصة كما لم يحدث قبلاً ولا بعداً، إذ حلوا خلافهم بعقلهم وبالديمقراطية فلم يتهموا بعضاً بالخيانة والعمالة ولا مارسوا وطلبوا لبعضهم السجن وسحب الجنسية والتعذيب والموت كما حدث منذ أكثر من نصف قرن.

فأين صبت نتيجة ذلك؟