"الوطن" تنشر نص كلمة بطريرك الكاثوليك في قداس عيد الميلاد

كتب: مصطفي رحومة:

"الوطن" تنشر نص كلمة بطريرك الكاثوليك في قداس عيد الميلاد

"الوطن" تنشر نص كلمة بطريرك الكاثوليك في قداس عيد الميلاد

حملت الكلمة التي ألقاها الأنبا إبراهيم أسحق، بطريرك الكنيسة الكاثوليكية، في قداس العيد بكاتدرائية العذراء للأقباط الكاثوليك بمدينة نصر، بحضور مندوب عن رئيس الجمهورية، عنوان: "الرحمة والحق تلاقيا.. العدل والسلام تعانقا".

وجاء نصها: "يشرق على العالم عيد ميلاد يسوع المسيح، كلمة الله الذاتية الناطقة، الله الكلمة الذي تجسد وأخلى ذاته آخذًا صورة إنسان وأشبهنا في كل شيء ما خلا الخطيئة (فيليبي ٢: ٧)، وهو ضياء مجد الله وجوهر طبيعته، يشرق على عالمنا المسخن بالجراح، يمزقه الألم وتطوف به مأساة الحروب واللاجئين الهاربين من الموت والمطرودين من ديارهم وكأننا نسمع صوت الخالق يتردد في صدى التاريخ يخاطب قايين (ماذا صنعت؟.. إن صوت دماء أخيك صارخ إليّ من الأرض، والآن فملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دماء أخيك من يدك (التكوين ٤: ١٠-١١)، كأننا نسمع الصوت الإلهي في أيامنا، ونحن نرى الدماء البريئة تسفك، والدموع الحزينة تسيل، والأسرة البشرية لم يصل إدراكها بعد إلى أنها أسرة واحدة وعائلة واحدة  أبناء الله، كافة البشر، لا يمكن أن يكون فيها أمن وسلام واستقرار ويموت منها في كل عام  الملايين جوعاً وعطشاً،  كما يذهب الأطفال ضحايا العنف مع الملايين الني فقدت الرجاء والأمل في مستقبل أفضل)، وفي زحام هذه الآلام والقضايا، يطل علينا عيد ميلاد المسيح الذي جاء ليحقق في شخصه قول داود النبي في المزمور "الرحمة والحق تلاقيا العدل والسلام تعانقا".

أولًا: الرحمة والحق تلاقيا

يفيض الكتاب المقدس بعبارة "الرحمة الإلهية" فالله هو خالق البشر وهو الذي يرحم الجميع وبدون رحمته ومغفرته لا تستقيم الحياة، يصلي داود النبي "أرحمني يا الله كعظيم رحمتك" (مزمور: 50) ويُعلن الله صراحة: أني أريد رحمة لا ذبيحة (هوشع٦:٦، متى ٩:١٣) وأعظم ثمرة للرحمة هي العدل، ووضع لنا المسيح شريعة المحبة مقترنة دائماً بشرعة الحق، لا مغفرة للإنسان إلا إذا غفر لأخيه الإنسان هكذا في العهد القديم والجديد ( يشوع بن سيراخ ٢٨:٢، متى ٦:١٤) فالدينونة الأخيرة مقياسها أعمال الرحمة لكل إنسان دون تمييز (متى ٢٥: ٣٥ ) ولأن المسيح قد أعلن أن الحق يحرر الإنسان (يوحنا 8 : 36) لذا جاء هو الطريق والحق والحياة (يوحنا 14 : 6) ينبوعاً للرحمة لجميع المحتاجين وناصرا للحق. فلا يحق لإنسان أن يدين إنسانا ومن كان بلا خطيئة فليرجم الخاطئ بحجر (يوحنا 8 : 7).

وقد أعلن قداسة البابا فرنسيس تكريس سنة 2016 يوبيلا استثنائيا، لأفعال الرحمة في كل أنحاء العالم، وتقوم في أن يعيش الإنسان في أسرته رحيمًا بها، وفي عمله رحيمًا بمن حوله، وفي كل سلوكه رحيمًا يسعى إلى الحق، ويظن كثيرون ويعلنون أن قضية العالم ومشكلته هي الاقتصاد، نعم ولكن العالم قبل السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا يحتاج إلى الرحمة واحترام الحقوق لكل إنسان في كل نواحي الحياة، فإن كانت المحبة أعظم من الإيمان ( رسالة كورنتوس الأولى 13 : 13 ) فالرحمة والحق اعظم من كل الثروات.

وقد حقق المسيح الرحمة بحياته وبتعاليمه، وأنار لنا طريق الحق وعلى العالم أن يتخذ من تعاليمه نورًا ونبراسًا له. يقول قداسة البابا: "أود أن أؤكد بكل حماس بأن سبيل العنف والكراهية لن يحل قضايا الإنسانية وإن استخدم اسم الجلالة - الله - ذريعة لهذا السبيل فهذه إهانة لله تبارك وتعالى". إن رحمة الله الواسعة نموذج لحياتنا لكي نكون رحماء مع بعضنا البعض ومع كل إنسان.

لقد أُعلنت سنة 2016 سنة الرحمة، لأن الأسرة البشرية في العالم كافة في أشد الحاجة إلى الرحمة والغفران والتسامح، وفي الثامن من هذا الشهر قام قداسة البابا بفتح باب اليوبيل في كنيسة القديس بطرس بروما كرمز لفتح قلوبنا لنيل رحمة الله وغفرانه بالتوبة وممارسة سر الاعتراف والمصالحة وتجديد حياتنا وسلوكنا، وانفتاح حياتنا على الاخر الذي نعيش معه، في الاسرة وفي كل مجتمع وجماعة نعيش فيها، فيكون للانسان الاخر قيمة ومكان في حياتنا. 

الرحمة ليست مجرد عواطف وشفقة لرؤية من يعاني ويتألم، وإنما تقوم في أن أكون أكثر إيجابية وأن أفتح قلبي وعقلي لكل إنسان ولا أتكاسل عن عمل الخير، فالابتسامة رحمة والإصغاء للآخر باحترام رحمة ومساندة الضعفاء والفقراء على المستوى الانساني والروحي والاقتصادي رحمة، والأمانة والصدق في أي عمل تقوم به رحمة لأنه يساهم في بنيان عالم أفضل.

إننا "إذا تأملنا بعين الإيمان أحوال عالمنا، غلب علينا الحزن والألم أمام مأساة هذا العالم وبخاصة مأساة منطقتنا العربية، دمار وخراب، لاجئون يهيمون على وجوههم طالبين المأوى والأمان، وكان مشهد العائلة المقدسة اللاجئة الى مصر هربا من بطش هيرودس يتكرر كل يوم. الإنسان يتعذب، فهل نرأف به؟ هل نسقط القسوة والظلم من حياتنا؟ انها رسالة كل مؤمن حقيقي في هذه الأيام الصعبة أن يخفف آلام من يعانون، وان يكون قناة لرحمة الله، هذا هو معنى سنة الرحمة".

ثانيًا: العدل والسلام تعانقا

 نصلي دومًا "أرحمنا يا الله" (وهذا معنى كلمة كيرياليسون).. إن كان الله أرحم الراحمين  فأنه القدوس العدل، والعدل يؤدي إلى السلام.. إن تجسد الكلمة دليل إلهي على قيمة الانسان والحياة الإنسانية، والله يحب ويحترم كل إنسان خلقه على صورته ومثاله، فليس إنسان يكون موضوعا للاحتقار، وليس من حق اي إنسان أن يدوس على حقوق الإنسان الآخر.. إن تنوع الجنس البشري في أديانه ولونه وتقاليده وثقافاته لا يلغي وحدة جنسه فآدم هو أبو البشرية والمسيح آدم الثاني جاء من أجل كل البشرية.

يقول القديس أغسطينوس: "لو مات الناس جميعاً ما عدا نفس بشرية واحدة لتجسد المسيح من أجل هذه النفس ، فأي قيمة أعظم من قيمة الانسان في هذا الوجود!، وما يحدث في أنحاء العالم من حروب جراء  الصراع السياسي أو الديني أو المذهبي إنما هو صراع من عمل الشيطان عدو الخير، فالبشر أسرة واحدة شاءوا أم أبوا هكذا خلقنا ولا نهضة حقيقية أو تنمية شاملة إلا إذا تعانق العدل والسلام.. من أجل هذا ولد المسيح، كلمة الله، ومحبة الله للبشر، ليعيد صياغة علاقة الحب بين الله والإنسان، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، العدل يثمر السلام، والسلام يشيع الأمن والاستقرار، وتبنى الحضارات على مبادئ الرحمة والحق والعدل والسلام التي جسدها المسيح في حياته منذ مولده في بيت لحم وحتى قيامته من الموت".

إننا مدعون كبشر جميعًا لأن نبني تقدمنا ومستقبلنا على هذه  المبادئ السامية، والعالم اليوم وفي المستقبل في حاجة دومًا أن يتذكرها وبخاصة يوم ميلاد المسيح حين اتحدت السماء والأرض في أنشودة خالدة: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة".

ختامًا:

متحدين مع قداسة البابا فرنسيس، الذي يصلي دوما من أجل شرقنا العزيز، ومع إخوتنا بطاركة وأساقفة كل الكنائس ومن كنيستنا هذه نرفع صلاتنا باسمكم جميعًا من أجل أن يعود العدل والسلام المفقودان في العالم، وان يشملنا الله برحمته ويغمر قلوبنا بالرحمة تجاه بَعضُنَا البعض.

نبعث إلى السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي رسالة محبة وتقدير لإخلاصه في عطائه وبذله من أجل مصر، طالبين لوطننا الغالي مزيدًا من الاستقرار والتقدم والتجدد بفضل مشاركة أكثر إيجابية من كل مصري وكل مصرية.

نصلي من أجل أمن مصر وأمانها وأن تكون كما كانت على الدوام صاحبة الرسالة المميزة في تاريخ الحضارات وصانعة سلام وجسرًا للحوار وواحة للقاء، ونصلي من أجل عائلاتنا حتى تستمر في الحفاظ على وحدتها، وأن يسود حياتنا الغفران والرحمة والاحترام المتبادل، وأن ننبذ كل عنف وإهانة ولامبالاة، وأن يكون الإصغاء والحوار في احترام متبادل هو أداتنا الأولى والأساسية في التعامل فيما بيننا.

تهنئة صادقة للجميع مع أمنيتي أن تكون حياتنا تجسيدًا للرحمة والحق وللعدالة والسلام.

وكل عام وأنتم بخير".


مواضيع متعلقة