«أرض البحر».. الموت «صعقاً بالكهرباء»

كتب: محمد غالب

«أرض البحر».. الموت «صعقاً بالكهرباء»

«أرض البحر».. الموت «صعقاً بالكهرباء»

صورة ابنته «دعاء»، يحتفظ بها فى حافظة نقوده، يُخرجها بين حين وآخر، يقبّلها ثم يضعها مرة أخرى بعد أن يقرأ الفاتحة على روحها. «دعاء سامح»، طفلة لم يتعدَّ عمرها الـ7 سنوات، واحدة من ضحايا الإهمال، ماتت صعقاً بالكهرباء أثناء لعبها فوق سطح منزلها.

{long_qoute_1}

يقول والدها إنها صعدت ذات يوم إلى السطح، كان الجو شديد الحرارة، أرادت أن تشم هواء نقياً، صعدت إلى السطح وبعدها بدقائق صعدت روحها إلى بارئها بعد أن صعقتها الكهرباء الممتدة أسلاكها فوق سطح المنزل: «كنت فى محل الحلاقة بتاعى أسفل المنزل، وكان اليوم ده حر أوى، طلعت دعاء السطح تشم هوا وتلعب زى ما متعودة، وفجأة حصل ذبذبة فى السلك الممتد فوق السطح، عمل صوت قنبلة والبنت صعقتها الكهرباء، اتحدفت بعيد، طلعنا نجرى على السطح لقينا البنت ماتت فى لحظتها». بدموع تُغرق وجهه يسترجع «سامح حامد سليمان» ذكريات اليوم الحزين الذى فقد فيه ابنته، يحكى ثم يُخرج الصورة ليقبّلها ويعاود التقاط أنفاسه لمواصلة الحديث: «ربنا ما يحرق قلب حد على ضناه ولا يشوف اللى احنا شفناه.. ربنا يرحمك يا دعاء».

يصعد «سامح» يومياً إلى السطح، ينظر إلى المكان الذى ماتت فيه «دعاء»، هنا كانت تلعب، وهنا ماتت، لا تزال ألعابها موجودة على السطح حتى الآن، حتى ملابسها ما زالت مرصوصة فى دولابها بعناية، كل شىء كما هو ما عدا «دعاء» التى خطفها الموت من أحضان والديها بسبب إهمال الدولة وعدم اهتمامها بالمواطن، حسب «سامح».

فكّر الأب كثيراً فى ترك المنزل والرحيل من منطقة «أرض البحر» كلها، لكن ظروفه المادية تحول دون ذلك، فمن أين يأتى بمنزل جديد؟ كل يوم يفكر، وكل يوم يتأكد له استحالة الأمر، فلا أحد يريد شراء منزله، الكل يخاف من شراء منزل ماتت فيه طفلة، وهو ما يزيد من أحزانه وأوجاعه. نفسية صعبة، أعصاب منهارة، توتر شديد يعيش فيه، ذكريات أليمة ومستقبل «مكهرب» يخطف الأصدقاء والأقارب: «إحنا على قد حالنا، ومالناش غير ربنا، مش عايشين ولا عارفين هنكمل حياتنا ازاى، وكل يوم حد بيموت قدام عينينا».

{long_qoute_2}

«كان فى الصف الثانى الإعدادى، كان بيملا حياتى فرحة ونور، كان طول بعرض وجمال، كان أحلى حاجة بالنسبة لى»، هكذا تتحدث «أم أحمد» عن ابنها «أحمد»، توفى وهو فى الثالثة عشرة من عمره، سنتان مرتا على وفاته، وهى تتذكر: «السخونية بتاعة الضغط خلت السلك يضرب، سمعنا حاجة بتفرقع، طلعنا جرى على السطح لقينا جسمه اتحرق، وشه وشعره وإيده ورجله، كان سايح على السطح، عقبال ما وديناه المستشفى كان مات»، قالتها «أم أحمد»، مؤكدة أن الحياة توقفت بالنسبة لها فى «أرض البحر»، تخاف على أولادها الثلاثة من مصير شقيقهم، كيف تحافظ عليهم فى منطقة غير آمنة على أهلها: «كان أول مرة يطلع فيها السطح، طلع لقدره، ربنا كاتب له إنه يموت الموتة دى وهو صغير». صوت ذبذبات الكهرباء الذى تسمعه «أم أحمد» دوماً، والصوت الشديد الذى تسمعه خاصة فى الشتاء ومع هطول الأمطار، يخيفها، ويذكّرها بابنها، فلا تجد ما يبرد قلبها سوى عبارة «حسبى الله ونعم الوكيل»، تشكو إلى الله كل مهمل ومتسبب فى زيادة الضحايا، تصف الكهرباء الموجودة فى كل مكان بالـ«قرف»، كرهتها كما كرهت المنطقة، وحاولت الخروج منها، لكنها فى النهاية لا تقدر على الرحيل.

لحظات مخيفة تتذكرها «أم أحمد»، لا تنسى عندما لمس شخص من أهالى المنطقة أحد محولات الكهرباء، فصرخ بصوت مرتفع، بعد حدوث «قفلة» نتج عنها شرارة نار قوية رأت ضوءها وهى فى شقتها، وقتها احتضنت أطفالها، واختبأت كمن يختبئ من الموت، وفى الوقت نفسه تبكى ابنها الذى عاش هذه اللحظات المرعبة، وتتساءل: «لحد إمتى هنفضل نموت من الكهرباء ومحدش سائل فينا، الحكومة مستنية إيه؟ كل بيت تقريباً فيه طفل مات من الكهرباء، كل البيوت حزينة».

{long_qoute_3}

الموت أصبح حدثاً عادياً يعيشه أهالى «أرض البحر» بشكل شبه يومى، يقول جمال هاشم، خال الطفل «أحمد»: «بقى حاجة عادية خالص، بنسمع صوت انفجار، خاصة وقت المطر، بيبقى فيه بلاوى سودا، أحمد مات قدام عينينا ماقدرناش نعمل له حاجة، وغيره كتير هنا فى المنطقة، وللأسف مفيش حاجة اتغيرت، اشتكينا كتير، وفى كل مرة يقولوا لنا مالكمش حاجة عندنا، حد قال لكم تبنوا تحت التيار؟». وتساءل: «ليه سبتونا نشترى أراضى ونبنى عليها من سنين طويلة، ليه شايفين إن من الصعب تتشال خطوط الكهرباء من فوق بيوتنا؟ ليه مش عايزين ترحموا الأطفال والكبار من الموت بالكهرباء؟». أكثر ما يخشى منه «جمال» هو الشتاء لأن سقوط الأمطار يعنى وقوع ضحايا جدد: «لما المطر ينزل الناس بتستخبى فى البيوت، لأن فوق السطح أسلاك عريانة وتحت فى الشارع صناديق كهرباء مكشوفة وشوية مية يكهربوا المنطقة كلها».

يستيقظ مبكراً، عمله يتطلب ذلك، ينقل الطوب والأسمنت على العربة الكارو التى يجرها حصانه من مكان إلى آخر، فى أحد الأيام، صعقت الكهرباء حصان «عاصم سمير» الذى يُعتبر رأس ماله الوحيد، نفق الحصان فى لحظتها، حزن عليه «عاصم» كأنه فقد أحد أبنائه: «الحصان تمنه 4000 جنيه راحوا فى لحظة، الحصان ده اللى كان ممشى حالى، لكن الحمد لله إن الكهرباء ماقتضتش علىّ عشان عيالى».

أسلاك عشوائية منتشرة فى كل مكان هى التى أدت إلى نفوق الحصان أمام عينى صاحبه، وأدت أيضاً إلى صعق إحدى السيدات صباحاً أمام عينى «عاصم»، وقعت السيدة على الأرض بقوة، وأسعفها المارة بسرعة قبل أن تلقى حتفها: «المشكلة كبيرة ومحدش مهتم، من تحت أسلاك على وش الأرض مرمية، وبيجيلها مطرة ومية مجارى والناس تدوس عليها، ومن فوق سلوك التيار تصعق أى حد يقرّب، زى ما تقول كده إحنا محاصرين من كل حتة».

أسطح المنازل أصبحت من المحظورات، كل أهالى منطقة «أرض البحر» يحذرون أطفالهم من صعود الأسطح، «محمد هاشم»، أحد أهالى المنطقة نبّه على كل أقاربه وجيرانه بعدم صعود الأسطح، خاصة بعد أن شاهد بعينيه العديد من الطيور التى تربيها السيدات فوق المنزل وهى نافقة بفعل الكهرباء التى صعقتها، فحتى الخرسانات الموجودة بالأسطح مكهربة، وتودى بحياة كل من يقترب منها: «الضغط ملمّس فى الخرسانات، لو مررت حديد جنبه يطلّع كهرباء، ده أنا مرة لقيت الفراخ مفرفرة وميتة على السطح»، يشخط «هاشم»، فى أولاده الأربعة حتى لا يصعدوا وراءه، يخاف عليهم، ويتمنى الخروج من المنطقة بسلام حتى يضمن مستقبلاً آمناً لأولاده.

ينظر «هاشم» من سطح منزله ويشير بيده إلى سطح منزل آخر: «البيت اللى هناك ده كان فيه واحد اسمه جابر عصران، مات متكهرب، وواحد بعده مات فى نفس البيت، وعامل بناء اسمه طارق اتكهرب ومات برضه فى نفس البيت». ينظر «هاشم» إلى باقى الأسطح المجاورة ويواصل حكاياته عن ضحايا الكهرباء الذين يتساقطون واحداً تلو الآخر، ويفكر فى مصير من حوله: «مواطنون على قد حالهم راحوا فى شربة مية». ليس الإنسان والحيوان فقط، فالجماد أيضاً تأثر بقوة التيار الكهربائى: «تليفزيونات وتلاجات وغسالات باظت بسبب قوة التيار وتذبذبه».

ليست التيارات الكهربائية فوق المنازل هى الخطر الوحيد الذى يهدد سكان المنطقة، هناك محولات كهرباء فى الشوارع مفتوحة، تصعق كل من يقترب منها، وتشكل خطورة كبيرة على الأطفال والكبار، وهو ما يُحزن «رجب شعبان»، الذى كان يشير بيده، إلى أحد صناديق الكهرباء تتصاعد منه الأدخنة: «الصناديق مدفونة فى الأرض ومضغوطة، المفروض تعلا شوية، وبتيجى عليها مية مجارى ومطرة فتعمل قفلات، الأرض شبعانة ميّه، ومرات كتير ولّعت الصناديق وانفجرت بسبب الضغط، وياما الناس صحيت مخضوضة على أصوات الانفجارات».

يسير «رجب» فى شوارع المنطقة كمرشد سياحى، يشير بإصبعه على كل الأماكن التى شهدت حوادث: «هنا مات خيل، وهنا مات صديق، وهناك ماتت طفلة»، متعشماً أن ينظر لهم أحد بعين الرحمة، ويتساءل: «هل فيه مسئول يقدر يعيش فى منطقة خطر زى دى؟».

«ربنا يبتلى المسئولين وييجوا يعيشوا هنا عشان يشوفوا عيشتنا وحزننا كل يوم على مفقود جديد، الكهرباء بتموتنا كل يوم ومحدش دريان بينا».. قالها «سيد عبدالوارث» الذى فقد الأمل فى أن يساعدهم أحد على الخروج من البلاء الذى يعيشون فيه.

يتذكر «عبدالوارث» مشهد وفاة اثنين من زملائه النجارين صعقاً بالكهرباء، يشير بيده على البيت «هنا مات محمد على، وهنا مات أحمد سليمان»، يحكى «سيد»: «كان شغال فوق السطح، فجأة انتطر بعيد، سمعنا انفجار، ولقيناه جثة قدامنا، هو ليه بيحصل فينا كده، هى الدولة مش مدركة إننا بنى آدمين ولا إيه»، مؤكداً أنه يشعر بمرارة وهو يرى أبناء منطقته يموتون بهذه الطريقة البشعة، ولا يتمنى من الله سوى إنقاذهم من هذه الحياة غير الآدمية. يدفع «سيد» 620 جنيهاً ممارسة كهرباء كل ثلاثة أشهر، كغيره من السكان: «الممارسة يعنى أنا دلوقتى قدمت على كهرباء وعداد، وماجبليش كهرباء، عايز اقعد فباخد سلك من الكابينة، فبدل ما يعمل لى محضر سرقة، يدفّعنى كل 3 شهور 650 جنيه، بيسرّقونا بالقانون، بالأدب يعنى، طب منين نجيب كل ده؟». بعد صلاة الفجر كان «محمد الشقرفى» يسير بأحد الشوارع، وفجأة وجد نفسه على الأرض من شدة الكهرباء التى اصطادته: «دُست على سلك كهرباء ماكانش باين، صُعقت، الدنيا هنا بايظة خالص»، مؤكداً أن حال ساكنى أرض البحر فى تدهور مستمر.

«ميادة خالد»، طالبة بالصف الأول الثانوى كانت فى طريقها للمدرسة، مرت من أمام أحد كابلات الكهرباء، وحدث ما لا تنساه أبداً: «اتكهربت، جسمى نمّل مع إننى مالمستوش، ده مرة الكابل اللى ورا ولع الصبح، وعمل صوت قوى، وطلع دخان وريحة صعبة»، مؤكدة أنها تخاف على شقيقتها الصغرى طوال الوقت أثناء ذهابها وعودتها من المدرسة. أما والدتها «أم محمود»، فلديها أربعة أبناء، بنتان وولدان، لا تسمح لهم بالخروج، إلا فى حالة الذهاب إلى المدرسة فقط: «الشارع محظور، السطح ممنوع، حتى المياه يخافون على النزول لملئها، كل شىء بحساب، وكل خطوة يجب أن تكون مدروسة».

يعيش «أحمد أبوالليل»، فى حزن شديد، فهو شاهد على وفاة الكثيرين، أقارب وأصدقاء، يؤكد أن 14 طفلاً فى المنطقة لقوا مصرعهم بسبب الكهرباء بخلاف الكبار، يحكى أن أسلاك الكهرباء لا تتعدى بضعة أمتار فوق البيوت، ويؤكد أن أسطح المنازل أصبحت طريقاً سهلاً للمقابر.

يلوح «أبوالليل»، مشيراً إلى أحد المنازل، يؤكد أن صاحب المنزل، ترك المنطقة ورحل هو وأسرته بعد أن حدث انفجار فى أحد أسلاك الكهرباء نتج عنه اشتعال حريق فى منزله، هجر المنطقة على الرغم من سوء أحواله، خوفاً من تكرار الحادث وتعرضه هو أو أى من أسرته لضرر: «مش كل الناس تقدر تسيب المنطقة، فيه ناس عايشة هنا غصب عنها لأنها مالهاش مكان تانى».

بعد كل تلك المعاناة يدفع «أبوالليل» 450 جنيهاً ممارسات كهرباء كل ثلاثة أشهر، حتى لا يحرر ضده محاضر سرقة، أما المحال فتدفع شهرياً 1500 جنيه ممارسات كهرباء، منهم من لم يستطع الاستمرار فأغلق محله، إما محاضر السرقة، أو الدفع: «مفيش حلول، يا نموت يا نعيش فى ضلمة، يا ندفع دم قلبنا من غير ما نشتكى»، مؤكداً أنه شاهد أكثر من جاموسة وحصان نفقت بسبب الكهرباء.

يناشد «أبوالليل»، الذى يعيش فى منطقة «أرض البحر» منذ 17 عاماً، المهندس شريف إسماعيل، رئيس الوزراء، إنقاذ السكان، وعمل تيارات كهربائية أخرى وإزالة جميع الأسلاك المكشوفة التى تعلو العقارات إنقاذاً لحياة سكان المنطقة: «إحنا ولاد ناس، ومواطنين مصريين، يقدر حد من الكبار يعيش فى الوضع ده؟ إحنا مش طالبين المستحيل، إحنا طالبين حياة آمنة علينا وعلى ولادنا»، يقولها «أبوكريم عاطف»، أحد السكان، مؤكداً أن السكان على استعداد أن يدفعوا أموالاً مقابل تحسين خدمة الكهرباء، فهم لن يقفوا متفرجين أمام ما يحدث. يتذكر «أبوكريم» عندما أتوا بطفاية حريق من أحد المحال، ومرة أخرى من إحدى السيارات من أجل اطفاء إحدى كبائن الكهرباء: «إحنا للأسف اتعودنا على كده، الوصلات بتلمّس فى بعض، بتعمل قفلة وتسبب خطر لأهالينا، خطر من فوق وخطر من تحت، للأسف محدش بيبص للغلابة، الدولة مش شايفانا، أصل الدولة ما بتشوفش تحت رجليها، الدولة ما بتشوفش العيل اللى بيموت هنا»، يزيد انفعال «أبوكريم»، ويصرخ قائلاً: «تعالوا شوفونا هنا.. إحنا بنموت».

 


مواضيع متعلقة