جهابذة الفضائيات.. وفتاوى سد النهضة!!

آمال عثمان

آمال عثمان

كاتب صحفي

ليس من الحكمة ولا المنطق أن تنطلق الحناجر بما ليس لها به علم، وتخرج علينا أبواق جهابذة «التوك شو» بأفكار ورؤى و«افتكاسات» ما أنزل الله بها من سلطان، وأن تفتح الساحة لكل من هبّ ودبّ ليدلو بدلوه فى قضايا استراتيجية تتطلب وعياً كبيراً بالأبعاد الفنية والتفاوضية، وفهماً دقيقاً للتطورات القانونية والسياسية، أو أن تتفرغ الدبلوماسية المصرية فى بلدنا لإصلاح خطايا الإعلام، ومعالجة ما أفسدته الألسنة والأقلام التى تُقحم نفسها فى قضايا شائكة مثل قضية سد النهضة الإثيوبى، دون أن يكون لديها المعلومات الصحيحة والقدرة على إدراك خطورة وأهمية التحركات السياسية والدبلوماسية، أو الاستراتيجيات والسيناريوهات البديلة المتاحة وتأثيراتها!!

لقد أدهشنى حقاً أن أجد مطالبات من خبراء فنيين وأساتذة بكليات الهندسة وعدد من المفكرين والإعلاميين، تطالب بالاعتراف صراحة بفشل مسار المباحثات، والبدء فى المسار القانونى، وأن يعلن بعض مقدمى «التوك شو» أن مفاوضات سد النهضة لا تعدو أن تكون تضييعاً للوقت، وأن مصر عليها أن تبحث عن حلول بديلة! لذا أصابت وزارة الخارجية حين أوضحت على لسان المستشار أحمد أبوزيد حقيقة ما تردد حول فشل المفاوضات، وحسمت اللغط والثرثرة التى أعقبت تأجيل الاجتماع الثلاثى للجنة الفنية، ووضعت حداً للتصريحات المغلوطة التى تفتعل الأزمات وتهيج الرأى العام، وأوضحت أهمية المنعطف الهام الذى تمر به القضية، والذى يتطلب تحركاً على المستوى الدبلوماسى والسياسى، بهدف تجاوز العقبات الفنية، ووضع خطوط استرشادية للاجتماعات الفنية التى لم تحقق تقدماً فيما يتعلق بحل الخلافات بين المكتبين الفرنسى والهولندى المكلفين بإعداد الدراسات.

يا سادة.. إن التعامل مع ملف سد النهضة يتطلب قدراً كبيراً من الحكمة والواقعية والموضوعية والنظر لتداعياته ومعطياته، فالمشروع الذى صار قيد التنفيذ يحقق لأديس بابا التنمية الاقتصادية المستدامة، وفى الوقت ذاته هو قضية أمن قومى ووجود واستمرار للدولة المصرية، وهو ما يتطلب ضرورة إحداث التوافق والتوازن بين الأهداف والمصالح لكل من الدولتين فى ظل متغيرات وظروف إقليمية تؤثر على المراكز التفاوضية لكل طرف، ولا شك أن أسوأ ما يمكن أن يحدث فى مسار الخلافات والنزاعات بيننا هو الاستقواء بجهات خارجية للوصول إلى تسويات، وفتح الباب للتدخلات الأجنبية فى الشئون الداخلية، حتى لا يحدث المزيد من الاختراقات والانتهاكات والتكريس لحالة التبعية بين دول المنطقة.

صحيح أنه فى حال فشل المفاوضات، لا قدر الله، فإن السيناريو المطروح هو لجوء مصر إلى التحكيم الدولى، وعرض القضية على مجلس الأمن، ومجلس الأمن الأفريقى، وصولاً إلى محكمة العدل الدولية، لكن ما يعيق هذا المسار القانونى هو حتمية موافقة أطراف النزاع على اللجوء إلى القضاء الدولى، وهو ما ترفضه تماماً إثيوبيا! هذا إلى جانب عدم اعتراف إثيوبيا وبعض دول حوض النيل بالاتفاقيات الدولية والمعاهدات المتعلقة بنهر النيل، ناهيك عن قيام دولة الحبشة بفرض سياسة الأمر الواقع بالبدء السريع فى بناء السد وجعله حقيقة واقعة، مستغلة حالة عدم الاستقرار والأوضاع الداخلية والظروف السياسية التى مرت بها مصر منذ ثورة 25 يناير، فى الوقت الذى تتمتع فيه الحبشة باستقرار كيانها الدستورى على مدى أكثر من عقدين، مما ساهم فى وجود حكومة تمكنت من نقل السلطة بعد رحيل رئيس الوزراء السابق «ميليس زيناوى»، وهو ما يوفر ظروفاً مواتية أمام التطلعات الإثيوبية لتطوير سياستها الإقليمية فى القارة السوداء.

أما من يتصور أن الحل العسكرى مطروح كأحد البدائل فهو واهمٌ حقاً، لأن أى تحرك لتوجيه ضربة جوية للسد أو إرسال فرق عمليات خاصة لتخريبه يحتاج لتنسيق مع السودان لإقلاع الطائرات من حدودها التى تبعد 40 كيلو عن السد، فى حين أن موقف حكومة الخرطوم إيجابى جداً من السد، هذا إلى جانب ردود الفعل التى يمكن أن تعرّض السد العالى للخطر، وتُدخلنا فى حرب إقليمية لا تقدر عليها مصر فى ظل الأوضاع الداخلية والظروف السياسية الخارجية، كما لا يمكن تجاهل الدعم الذى تتلقاه أديس بابا من الدول التى موّلت مشروع السد، مثل الصين وإيطاليا وغيرهما، إلى جانب الدعم غير المعلن لها من إسرائيل!!

وللحديث بقية..