«الدّهابة».. حلم الثراء يبدأ بالتنقيب فى «حجارة الكورتز»

كتب: محمد أبوضيف

«الدّهابة».. حلم الثراء يبدأ بالتنقيب فى «حجارة الكورتز»

«الدّهابة».. حلم الثراء يبدأ بالتنقيب فى «حجارة الكورتز»

وسط السوق الدولية بمدينة الشلاتين غرفة صغيرة محاطة بسور كبير من الحجر الجيرى، مغلقة بباب حديدى محكم بأقفال، وبالداخل يظهر شاب بوجه أسمر وملامح جنوبية، ملفح بشال أبيض، يقف على «كسارة» تطحن الأحجار التى يودعها فى فوهتها، ويحاول تفادى ما يتطاير منها من فتات، وإلى جانبه حوض من المياه، يجلس بداخله 3 يعملون على تصفية الأحجار، وجمع الفتات اللامع، إنه «الذهب»، بعد تصفيته من أحجار الكورتز، داخل إحدى الكسارات التى تستخلص قطرات الذهب بعد جمعه من جبال البحر الأحمر من دهابة المدينة.

فى مكان منزوٍ خلف مقر الكسارة، يجلس «س. ع» على أريكة خشبية متهالكة، بعباءته السوداء، وجلبابه الأبيض، وعمامته الكبرى، فى انتظار ما سيخرج عنه اليوم من عمل شاق، لجمع فتات الذهب، ويقول إنه يعمل منذ صغره فى جمع أحجار الكورتز التى تحتوى على الذهب من الوديان فى الصحراء، وكل ما يكمن فى خلده الحلم الذى بات قريباً، تقنين أوضاع الدهابة، ليكون عملهم بشكل شرعى بعيداً عن الخوف الذى يطاردهم دائماً من أن تطالهم أيادى الجيش، ولكن تحول ذلك الحلم إلى كابوس بعدما أعلنت شركة التعدين بالشلاتين والموكلة بتقنين أوضاعهم، أنها ستسمح لشركات كبرى للتنقيب عن الذهب فى المنطقة.

لم يتملك الخوف من «س» وحده، ولكن جميع من يعملون على جمع الذهب من الوديان يخشون عملية التقنين، التى يتفاوضون فيها مع الحكومة منذ 4 سنوات للاتفاق على نسبة 20% من الكمية التى يجمعونها لصالح الدولة، فى مقابل إصدار تصاريح للعمل، وللجهاز المستخدم فى عملية البحث، لكن ما يؤرقهم هو تلك الشركات المنتظر أن تأتى للمنطقة للبحث عن ذهب الجنوب: «إحنا بندوّر على الدهب اللى جرفته السيول فى الوديان والصحراء».

ولكن الشركات التى أصبحت تمثل هاجساً له وزملائه وأثارت بداخلهم المخاوف على باديته، صحراء وطبيعتها التى لا تسمح بالعبث بها: «هييجوا ينقبوا ويحفروا على أعماق كبيرة وده هيقتل الشجر ويدمر الصحراء.. وإحنا مش ناقصين مش كفاية الجفاف اللى دمر البادية.. كمان هيكون فيه شركات كبيرة وحفارات عملاقة».

{long_qoute_1}

بعيداً عن الكسارة، يجلس «ع. و» شاب عشرينى السن، بداخل إحدى سيارات الدفع الرباعى، التى يعمل عليها ينقل الدهابة إلى الصحراء للعمل بالجبال ويمكث معهم حتى انتهاء اليوم وينقل ما جمعوه إلى الكسارات فى الشلاتين، يقول بكل امتعاض: «الناس متصورة إننا عايشين غرقانين فى الدهب»، ويحصل «ع» على مكسبه مما تجود به الصحراء، حيث يكون الاتفاق بين «الدهابة» على أن السيارة تحصل على ثلث الكمية والكسارة الثلث والباحثين الثلث الآخر، ولكن لا توجد بالصحراء دائماً الكميات الوفيرة من الذهب، ففى بعض الأحيان لا يصل ما يتقاضونه إلى ثمن وقود السيارة، وفى أحيان أخرى يعودون خاليى الوفاض دون أى ناتج، حسب رواية الشاب.

وأكثر ما يثير حفيظة الشاب العشرينى هو الحديث عن التقنين: «بقالهم 4 سنين بيتفقوا معانا، اجتماعات وكلام كتير وفى الآخر يقولك فيه شركات هتيجى تنقب معاكو.. يعنى هيقاسمونا فى لقمة عيشنا»، ولا يجد الشاب خطأ فى العمل على التنقيب عن الذهب، رغم أنه رفض ذكر اسمه خوفاً من مطاردة الجيش، ولكنه يقول: «احنا مش شغالين تجار مخدرات، ده حجر ومرمى فى الصحرا واحنا بنجمعه، إيه الحرام فى كده؟ وقلنا للدولة كتير طلعوا لنا تصاريح ونديكو نسبة بس مفيش أى رد».

على أهداب السوق، وأمام مغسلة تستقبل التجار السودانيين للاستحمام، يجلس «ف. ت»، صاحب المغسلة، عمل فى التنقيب عن الذهب حتى ساءت سمعتها: «مصر كلها حسستنا إننا كل يوم بنلاقى بالكيلو والاتنين.. أنا بكسب من الغسلة أكتر من الشغلانة ديه»، ظل الرجل يعمل بالمهنة 15 عاماً، يخرج بالشهور للبحث فى الصحراء عن أحجار الكورتز، باستخدام جهاز الكشف عن المعادن، ويقول إن أكثر عمق يمكن الحفر بداخله هو متر ولا يستطيعون العمل على عمق أكبر من ذلك: «المعدات والآلات والناس اللى شغالة هنا متقدرش أكتر من كده».

{long_qoute_2}

وإلى جواره يجلس «ج. ى» ما زال يمتهن التنقيب عن الذهب، يعمل بها منذ ثلاث سنوات، يمتلك سيارات تخرج لترافق الدهابة، ولديه كسارة توقفت بسبب تعطل الآلات، ويقول إن الجميع ينتظر التصاريح: «احنا نستفيد وهما يستفيدوا.. لكن سمعنا إنهم هيدوا كمان تصاريح للرأسماليين»، مشيراً إلى أن العاملين بالدهابة ليست لديهم القدرة على تشكيل شركات تنافس شركات التعدين الكبرى: «لا معانا فلوس نأسس شركات وكل ما نتمناه ترخيص الأجهزة وعمل العربات فى الجبال».

{left_qoute_2}

«عايزين يدوا التصاريح للروس الكبيرة وهما يدونا من الباطن»، يقول «ج»، ممتعضاً، يصمت ملياً، ويعاود ليقول إن المساحات فى الصحراء ستقسم على «الناس اللى ظروفهم حلوة»، ولا ينكر الرجل أن غالبية أهالى مدينة الشلاتين وحلايب من قبائل العبابدة والبشارية يعملون فى التنقيب عن الدهب، ولكن: «يعنى انت بدل ما توفر لنا تصاريح وانت تستفيد واحنا نستفيد تجيب لنا أباطرة كبار يقاسمونا فى لقمة عيشنا».

لا يقوى الرجل العجوز على الخروج بنفسه، ولكن يقول إن العربات تخرج من أسبوع وتستمر لمدة تزيد على شهر: «تنزل العربية كل يوم من الجبل تجيب الأكل والشرب والزوادة للرجالة فوق»، ولكن يقول إنه فى أوقات كثيرة لا يكون ما جمعوه على قدر ما صرف على تلك الرحلات التى يعيشون فيها وسط الجبال والصحراء: «ممكن تاخد شهور ومتلاقيش»، ويقول إن «الروس الكبيرة» هى التى ستعمل فى التنقيب عن الدهب الآن: «آخره يكون معاه معدة»، ولكن مع التقنين «شركات بقى ومستثمرين وناس احنا مش قدهم، احنا بنمشى ورا العرق، العرق مره يديك ومرة مايديكش حاجة»، مشيراً إلى طريقة العمل المعتمدة، التى تعتمد على حفارات صغيرة فى بعض الأحيان: «لما يكون صاحب الشغل مقتدر»، وتأتى من منطقة مرسى علم، فيما تنتشر «الكسارات» التى تستخلص الذهب فى الشلاتين وحلايب: «أكتر من عشرة طواحين وكسارات فى منطقة السوق فقط».

{left_qoute_1}

عدد من شباب الدهابة تجمع بعد العمل على أحد المقاهى فى عزبة الصول، يأخذون استراحة محارب بعدما عملوا فى الصحراء لعشرة أيام، أجمعوا بصوت واحد على رفضهم لعملية التقنين، يجلس أحدهم يعد الجبن، مرتدياً «السوكنة» الجلباب السودانى، ويقول الشاب المنتمى لقبيلة البشارية إنهم كانوا يتمنون تقنين صغار المنقبين من أهل المدينة، وليس استقدام شركات كبرى من الخارج. الشاب الذى يقول بكل زهو إنه متعلم حاصل على معهد عال، ولكنه لم يجد ما يقتات منه لقمة عيشه: «يا أشتغل شيال فى السوق يا أشتغل فى الذهب»، مشيراً إلى أن الشلاتين بها الكثير ممن يعملون فى الذهب: «يعنى إيد عاملة قوية ومدربة وخبرة»، مقترحاً إنشاء الحكومة شركة لاستخراج الذهب بدلاً من إعطاء التصاريح لمستثمرين، ويعمل فيها كل «الدهابة» من أهل المدينة، ولكن الشاب يعرف جيداً أن اقتراحه لن يجد صدى لدى المسئولين.

 


مواضيع متعلقة