صور عارية فى المقبرة

نائل السودة

نائل السودة

كاتب صحفي

لم يكن لدى قدماء المصريين إله للموت، رغم أن حضارتهم كان سعيها هو الاحتيال على الموت وتحقيق الخلود.

خاطبوا الموت على أنه لص بغيض (كنت طفلاً صغيراً عندما خُطفت بالعنف، وأنا وسط أصحابى ألعب.. اختصرت سنوات حياتى).

ظلت طقوس الموت فى مصر راسخة، لم يُغير من مفرداتها الأساسية لا المسيحية ولا الإسلام ولا الأزهر ولا المشايخ ولا الصالحون.

إذا مات رجل لطخت نساء أهله الرأس أو الوجه بالطين، ويسرن يلطمن وقد شمّرن وكشفن عن صدورهن، وكذا الرجال يلطمون ويشمّرون، وعندما ينتهى ذلك يحملون الجثة لتحنيطها، ويعود أصل ذلك الطقس إلى مأساة أوزوريس، إذ هلعت أختاه إيزيس ونفتيس لمصرعه، ورمز لهما المصريون فى مناظر الجنازة التى تُرسم على القبور بحدأتين نواحتين: تركع الأولى عند رأسه وتضع يديها عليه وتركع الأخرى عند قدميه وتضع يديها على صدرها، ومن حولهما نساء باكيات صائحات، وقد حللن شعورهن وشققن جيوبهن.

مثل ذلك ما زال موجوداً فى قرانا، واقترن بالندّابات، سواء كن مستأجرات أم من أهل الميت. وما زالت الزوجة المصرية حين تنعى زوجها تصرخ وتودعه بـ«أخويا».

أضيف إلى هذا الندب ذكر «حمزة» فى مطلع العديد من القصص بعد دخول الإسلام مصر، وقصة ذلك تعود إلى حديث النبى محمد عليه السلام، عندما قال محزوناً عندما سمع أهل شهداء أحد من الأنصار يبكين شهداءهن، فقال: ولكن حمزة لا بواكى له، فخرج نساء الأنصار جميعهن يبكين حمزة، وأصبح من التقاليد المعروفة بكاء حمزة عند القبائل العربية التى هاجرت إلى مصر.

المصرى القديم يعتقد أن الموت ليس نهاية كل حى، وإنما هو باستخدام لفظ هذه الأيام الدارج (مرحلة انتقالية) ينفقون فيها كثيراً، لكى تعود الروح التى غادرت مؤقتاً إلى الجسد الذى يلزم حفظه سليماً بيّن المعالم، باستخدام التحنيط مع وضع نموذج لملامح الميت، كى تستدل عليه الروح عند عودتها، مع تزويد الميت بالطعام والشراب، لأنه لن يستطيع العيش دونهما، ثم تجديد تلك المؤونة باستمرار، بمعرفة الأهل، خاصة الابن الأكبر، فصارت المقابر مخازن للطعام.

كانت مراسم الجنازة عند المصرى القديم لا تختلف فى كثير عما يحدث فى العصر الحديث، وتبدأ الطقوس بتلك المناحة الأولى حول سريره، ثم الإعلان بالندب والعويل فى المنطقة المحيطة، ثم التحنيط بإحدى الطرق التى تناسب الأحوال المالية، ثم يحمل الميت إلى النيل فى حالة ما كانت المقابر فى الضفة الأخرى للنهر، ليعبره فى قارب عليه التابوت، وداخله المومياء، وطوال فترة العبور تقف امرأتان تمثلان «إيزيس» و«نفتيس» تنتحبان، وتحيط بهذا القارب قوارب أخرى تحمل المشيعين، وأمتعة الميت اللازمة للمرحلة الانتقالية، مثل السرير والمرتبة والمخدة والعطور والأوانى التى سيأكل فيها وغيره، ثم يوضع التابوت على زحافة تجرّها الأبقار التى تشارك فى الحزن أيضاً (أيا سيدنا طيب القلب الذى كان يعطينا العلف ولا يلتفت إلى أخطائنا)، ويطلق الكهنة البخور ويرتلون أناشيد المناسبة، وعند بلوغ المقبرة يقومون بطقوس أخرى، مثل فتح فم الميت لتيسير تناول الطعام، وتركع أرملة الميت أمام التابوت وتمسك زوجها الفقيد بيديها وكأنها تستبقيه، ثم تضع له تمثالاً عليه صورة لإله الحب والموت، وصورة امرأة عارية ذات شعر طويل وكثيف، بعض هذه الصور كن فيها مكسورات الساقين، وقد تكتفى الزوجة بوضع مثلث مصنوع من الطين، فى دلالة على وجود العنصر الأنثوى، ثم ينزل إلى القبر، ومعه متاعه الذى حمله الأهل والأصدقاء على أكتافهم، كل هذا يتم، بينما الندابات أمام الموكب السائر، ثم يشترك الجميع فى تناول مأدبة جنائزية مصحوبة بالموسيقى والرقص، وبعدها تُكسر الكئوس التى استُعملت، ويتم جمع الورد الذى كان يحمله المعزّون ويدفن بجوار المقبرة.