سيادة الرئيس: انت اللى جرّأت الإعلام عليك

الرئيس تحدث: عادى.. زمار الحى لم يعد يطرب. هذا ما يقوله المتربصون، وشرائح لا يستهان بها -كمّاً ونوعاً- من المحبين. هذا الـ«عادى» مقلق فى حد ذاته، إذ ربما يكون خَصماً من كاريزما صنعتها لحظة تاريخية (الثالث من يوليو 2013) سيخبو وهجها عاجلاً أم آجلاً، ولن يبقى من هذا الوهج سوى نتائج على الأرض، أو صور فى ألبوم ذكريات.

الرئيس غضب، حتى إن صوته ارتفع، ولوّح بذراعيه زهقاً وغيظاً: تأخرت كثيراً يا سيادة الرئيس، لكن الغضب «متأخراً» أفضل من ألا ينفجر. غضبك تأخر سبعة عشر شهراً، وقلتها كثيراً: الأدب والأخلاق يبنيان أمماً وشعوباً، لكن بناء دولة يحتاج إلى بعض «الشر»، ومصر بالذات -مصر التى أُنهكت وانتُهكت على مدى أربع سنوات- كانت أحوج إلى ديكتاتور عادل. السؤال يا سيادة الرئيس: هل سننتظر عامين آخرين ليتحول «الغضب» إلى قرار؟. إلى إنجاز؟. إلى رغيف وعلبة دواء وتختة فى الفصل وفرصة عمل لائقة، وغرفتين وصالة فى شارع نظيف؟. هذا سقف القلق والإحباط. صحيح أن كل القابعين تحت هذا السقف يحبونك.. لكنهم تعبوا من الانتظار، فلا تحيّرهم، ولا تخيّرهم بين ضدين: إذا اكتفوا بأنهم «يحبونك» ماتوا يأساً وكبتاً، وإذا نفضوا غبار الكسل وثاروا.. أضاعوك وأضاعوا بلدهم إلى غير رجعة.

الرئيس احتد لأن ثعباناً من ثعابين الإعلام التى ربّاها فى عِبّه، و«حوَّط» عليها، و«دلَّعها»، قال إنه -أى الرئيس- كان جالساً مع مسئولى شركة «سيمنز» بينما الإسكندرية تغرق!. ماذا قال الرئيس (ولاحظ أنه كان فى ذروة انفعاله)؟. قال إنه لم يصدر عنه لفظ جارح طوال فترة حكمه ضد أى شخص، حتى أولئك الذين يعادون الدولة ويعادونه شخصياً (يقصد عصابة الإخوان وحلفاءها فى الداخل والخارج)!.. كسبنا صلاة النبى!. هذا الأدب والترفع كانا سبباً فى تطاول خصوم الداخل (مرتزقة 25 يناير، وأولهم عصابة الإخوان) على هيبتك، وتطاول خصوم الخارج (مثل الحقير أردوغان، وعائلة قطر الحاكمة) على هيبة الدولة المصرية. مَن الذى سدّ هذا الفراغ ودافع عن هيبتك وهيبة الدولة يا سيادة الرئيس؟. محبوك طبعاً (أبناء لحظتك التاريخية)، ملايين 30 يونيو، الذين فوّضوك لمحاربة الإرهاب، وانتخبوك رئيساً. ثم الإعلام ثانياً، وهو بالأساس يعتقد ويتعامل معك ومع الدولة كصاحب فضل: هو الذى تصدّى لحكم عصابة الإخوان. هو الذى حشد لثورة 30 يونيو، ودعم إجراءات الثالث من يوليو. هو الذى صرخ فى الناس ليستفتوا على الدستور، ثم لينتخبوك رئيساً. هو الذى هلّل لمؤتمر شرم الشيخ ومشروع قناة السويس الجديدة، وقام باللازم فى كل رحلاتك الخارجية.. بغض النظر عن أن هذا «اللازم» كان مخجلاً ومسيئاً فى معظم الأحوال.

حباً فيك، أو لغرض فى نفوس رجال أعماله.. أصبح الإعلام نداً لك، وصاحب فضل عليك. أصبح سلطة متوحشة، لا قِبَل لك أو لأى مسئول فى البلد بكبحها أو ضبط مسارها، فماذا تتوقع يا سيادة الرئيس؟.. أن «تنتقد» الإعلام؟. أن تعاتبه -حتى- على انفلاته وقلة أدب أحد ثعابينه فى مخاطبتك؟. تأخرت كثيراً، حتى إن غضبتك المهذبة وحّدت بين شرفاء هذا الإعلام وسفهائه، وانهالوا عليك نقداً وتوبيخاً وتقطيماً.. و«كل تعبان على قد سمه».

«انتو بتعذبونى عشان بقيت فى السلطة؟.. أنا هشتكيكم للشعب»: ما كل هذا الاستلاب (ولا أقول «الأدب») يا سيادة الرئيس؟. أهذه لغة يخاطب بها رئيس الدولة.. مواطنيه، أياً كان ثقلهم وتأثيرهم؟. كان ممكناً أن تتجاهل الأمر وتحوّل غضبك إلى قرار: أن تأمر حكومتك البائسة، العاجزة، بالانتهاء من وضع وإصدار التشريعات المنظمة للإعلام، وتحاكم المسئول عن تعطيلها. أن تعيد الروح إلى إعلام الدولة، وتضع حداً لمأساة «ماسبيرو». أن تصرف النظر -حتى- عن هذه وتلك، وتطلق فضائية خاصة، تضمن من خلالها وساطة آمنة ومهنية بينك وبين مواطن تمزق وعيه وأُهدرت همومه وأحلامه بين فضائيات رجال الأعمال. لكنك بدلاً من ذلك «نزلت» إليهم. فاجأتهم فى عقر دارهم، وتحدثت معهم كأنك «ضيف» على أحد برامج التوك شو: «انتو بتعذبونى..»!.

«همّا مين» يا سيادة الرئيس؟. إن كنت تدرى فتلك مصيبة، وإن كنت لا تدرى فالمصيبة أعظم، وأنت أدرى منهم بأنفسهم. لقد قررت أن تعلن حربك عليهم: ماشى. تأخرت قليلاً، ومن ثم اخترت لإعلانها لحظة غير مواتية: ليكن. ليس معقولاً بعد ذلك أن تبدو مستلَباً وأنت تحاربهم. كلمة «بتعذبونى» لا تليق برئيس يا سيادة الرئيس. «ما عاش ولا كان اللى يعذبك»، هذا أولاً. أما ثانياً: هم لا يعذبونك، لكنهم أفرطوا كثيراً فى استخدام حقهم فى نقدك، فأصبح حقاً يراد به باطل.. وأنت السبب.

أنت الذى أعطيت ظهرك لمشاكل المواطن، (وما أكثرها)، وأوكلتها لمسئولين فَشَلة، أغلبهم يعمل ضدك (بقصد أو بجهل) فاصطادك الإعلام من تهافت المشهد الانتخابى، ورَبَط بين عزوف الناخبين وتراجع شعبيتك. أنت الذى أعطيت الإعلام أكبر من وزنه، وعمّقت انقسام الإعلاميين على أنفسهم، فذهبوا نقيضين: هذا يطبّل وينافق.. وهذا يتربص ويغمز ويلمز، فكان لا بد أن يحترق وعى المواطن الغلبان فى أتون هذه الحرب الأهلية. أنت الذى -بسكوتك على هذه الفوضى، وعدم البحث عن بديل إعلامى يليق بدولة فى ظرف حرج- حوّلت الإعلاميين إلى قطيع من الحمقى والقَتَلة، وحوّلت الممارسة الإعلامية إلى إرهاب. أنت تعرف هؤلاء الإعلاميين أكثر مما يعرفون أنفسهم، وملفاتهم ملقاة على رصيف قصر الاتحادية. تعرف أن قطاعاً كبيراً منهم أكل على كل الموائد، وأن أقلهم أجراً يتقاضى عشرة أضعاف أجرك. تعرف أن ما يبدأ بـ«أنا مفجّر ثورة 30 يونيو».. لا بد أن ينتهى بـ«أنت فاشل». تعرف أن اعتقاد الإعلاميين بأنهم كانوا أصحاب الفضل فى «30 يونيو».. حق يراد به باطل، إذ كانوا أول من سيعلقهم الإخوان على أعواد المشانق.. لو لم تخرج الملايين ويتحرك الجيش. تعرف كل ذلك وأكثر يا سيادة الرئيس، وتقول لهم فى ذروة غضبك: «انتو بتعذبونى»؟!. أُمّال لو مش «فى ذروة غضبك» كنت عملت إيه.. أو بالأحرى: كنت ماعملتش إيه؟!.

«بيعذبوك عشان بقيت فى السلطة»: كيف تقول ذلك والشعب هو الذى منحك هذه السلطة، «بل تحايل عليك لتقبلها»؟. وهل يصح -وأنت بكامل صلاحيتك- أن تشكوهم لهذا الشعب؟. الشعب لم يعد يحبهم أو يصدقهم، حتى وإن كان يلجأ إليهم فى الكثير من أموره. ولا أظن أنه سيتعاطف معهم إذا واجهتهم. لكن المشكلة أنه قد لا يتعاطف معك. الشعب مشغول بأكل عيشه، وأنت انشغلت عنه وتركت أمره لمن لا يرحم و«لا يحنو». عن أى شعب تتحدث إذاً يا سيادة الرئيس؟. وهل ما زال هذا الشعب «نور عينيك»؟.

الإعلاميون يعذبونك، فتهددهم بأنك ستشكوهم للشعب، كأنك لا تدرك أنك الرئيس، وأن الشعب نفسه يتعذب!. أخشى يا سيادة الرئيس أن يأتى على هذا الشعب يوم، يقف فيه متفرجاً، عارضاً عنك، وأنت تخوض معاركك: «اذهب أنت وربك فقاتلا». وإذا كان هذا الإعلام لا يستحقك.. فثمة شرفاء كثيرون، ما زالوا مستعدين -رغم أنك همّشتهم وأعرضت عنهم- لدعم دولتك التى تحلم بها.. من دون تطبيل أو تطاول. والفرصة أمامك: فقط.. جرّب أن تكون شريراً كلما قضت الضرورة، وادّخر غضبك لما يحقق طموحات شعبك، لأنك باقٍ معنا ستة أعوام ونصف مقبلة.. شاء الإعلام أم أبى.