استغاثة من العالم الآخر!

آمال عثمان

آمال عثمان

كاتب صحفي

قد يكون من حق المسئول عن تراث مصر الامتناع عن التقدم ببلاغ ضد متحف بريطانى ارتدى ثوب القراصنة واللصوص، وتحدى كل القوانين والأعراف والأخلاق المتحفية، وباع تمثالاً فرعونياً فى مزاد علنى فى جريمة لا مثيل لها بين متاحف العالم، وأن يرى أن اتخاذ الإجراءات القانونية التى تحفظ حقنا فى استعادة التمثال، مجرد إضاعة للجهد والوقت وإهدار للمال، فذلك فى النهاية قراره الذى يحاسبه عليه التاريخ!

وربما يكون من حقه أيضاً تجاهل الأصوات التى تطالب بوقف عمل البعثات الإنجليزية لإجبار الحكومة البريطانية على التدخل ووقف جريمة بيع تمثال «سخم - كا» لأحد الأثرياء الذين يظنون أن كل شىء قابل للبيع والشراء حتى التاريخ!

لكن الأمر المؤكد أنه ليس من حق أى مسئول فى الدولة فتح الباب للعبث بتاريخنا وحضارتنا، والتعامل مع شخص يتصدر اسمه «قائمة سوداء» تضم عدداً من الأثريين الدوليين الذين يتعاملون مع تجار الآثار، والسماح له بتحويل أشهر المقابر الملكية بالبر الغربى إلى حقل تجارب لأوهامه وخيالاته.

وإنما من عجائب الأقدار أن نجد هذا الشخص الذى صدر قرار اللجنة الدائمة للآثار المصرية بوقفه عن العمل فى مصر، هو ذاته الأثرى «نيكولا ريفز» الذى استقبله الوزير منذ أيام استقبال الأبطال والفاتحين!! وأن تكون اللجنة العلمية التى سبق أن عاقبته هى أيضاً المنوط بها منحه حق العبث بجدران مقبرة توت عنخ آمون، أشهر مقابر وادى الملوك فى الأقصر!! وأن يكون ذلك الأثرى البريطانى الذى أقنع المسئولين بالتورط فى إعلان اكتشافاته المزعومة، هو ذاته الذى سبق أن ادعى العثور على مقبرة ملاصقة لسور مقبرة توت عنخ آمون من الناحية الجنوبية الغربية، وأثبتت البعثة المصرية التى قامت بالحفائر فى الموقع نفسه كذب مزاعمه وعدم صحة ادعاءاته، وأن الإشارات الصادرة عن جهاز المسح الرادارى لفريقه اليابانى ما هى إلا بقايا أكواخ عمال قديمة، وبعض الشروخ الصخرية!!

إن الأهمية الكبرى التى تحظى بها مقبرة الفرعون الصغير، والحرص على عمل نسخة طبق الأصل للحفاظ على المقبرة الأصلية، للحد من أعداد زوارها الذين لا يتعدون 150 شخصاً يومياً، كل ذلك يجعلنى أقول إن تعرضها لمثل تلك التجارب العبثية التى لا تستند لأدلة وبراهين علمية ضرب من الجنون لا يمكن تقبله أو التغاضى عنه بأى حال من الأحوال!!

إذا كان الهدف من وراء تلك الضجة الإعلامية هو عمل «بروباجندا» لجذب أنظار العالم، فلا شك أن د. ممدوح الدماطى لديه فرصة عظيمة لاستثمار تلك المزاعم والادعاءات فى تحقيق عائد سياحى وثقافى ومالى، يفوق بكثير ما يمكن أن يتحقق من الترويج لتلك الاكتشافات الوهمية، وذلك من خلال تنظيم مناظرة دولية تذاع على الهواء مباشرة، يجرى من خلالها مواجهة بين كبار علماء المصريات المتخصصين فى عصر العمارنة والأثرى البريطانى الذى يعلم الجميع عشقه للإثارة وترويج الاكتشافات عن إخناتون ونفرتيتى وتوت عنخ آمون، ولا يخفى على أحد أيضاً أسباب استبعاده من البعثة التى يرأسها عالم المصريات الشهير جيفرى مارتن، وأسباب رحيله عن المتحف البريطانى وعلاقته بجامعة أريزونا!!

يا سادة.. إن الفارق شاسع بين الاعتقادات والتصورات، وبين الاكتشافات والنظريات، ولو أنصتت وزارة الآثار لكل من تسول له نفسه بأوهام وخيالات، وسارت خلف كل من لديه تصورات أو اعتقادات دون أدلة وبراهين وأسانيد علمية، لتحولت مقابر الفراعنة إلى حقل تجارب، ومرتع للمهووسين والعابثين وهواة تحقيق الشهرة والمال!! ولوجدنا ملوك وملكات مصر الفرعونية يرسلون استغاثات من العالم الآخر، يطالبون فيها بحق اللجوء السياسى لوطن آخر!!