ذكريات مواطن عادى من زمن أكتوبر 73

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

كانت الساعة تقترب من الثانية ظهر السبت السادس من أكتوبر 73 العاشر من رمضان، وكانت الخالة، رحمها الله، تنهى حياكة ملابس جديدة للشاب الذى سيدخل الجامعة فى غضون عدة أيام بعد نجاحه فى مسابقة الثانوية العامة وحصوله على رخصة الالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية. كان الطقس لطيفاً آنذاك، وماكينة الخياطة المنزلية القديمة تخرج ضجيجها بدأب، ورغم ما فيها من إزعاج كانت بمثابة أصوات صداحة عذبة للشاب الذى ينتظر على أحر من الجمر الانتهاء من حياكة ثلاثة قمصان جديدة سيذهب بها إلى الجامعة، وبينما تقوم الأم وتساعدها الأخت الكبرى بإعداد طعام الإفطار الذى سيحل بعد ثلاث ساعات تقريباً، وصل الأب مبكراً من عمله على غير العادة، وكانت كلماته تسبق حبات العرق التى كانت تتصبب بكثافة من كل قسمات وجهه قائلاً بصوت صارم: «لقد بدأت الحرب.. افتحوا الراديو نعرف ما الذى يجرى.. هناك بيان سيذاع الآن».

كانت لحظة صادمة للجميع، أربكت كل شىء، أوقفت الخالة ماكينة الخياطة، وتركت الأم المطبخ، ووقفت الأخت الكبرى تسأل أى حرب؟ هو إحنا مستعدين؟ مرت على الأذهان ذكريات أليمة عن هزيمة يونيو 67 وعن الهجمات الإسرائيلية العشوائية على المدنيين فى الإسماعيلية، وعن البيوت التى تهدمت على أصحابها وعلى الجد الذى توفى فى إحدى تلك الهجمات، وعن مشقة التهجير من الإسماعيلية الهادئة إلى المنصورة والسنبلاوين وطنطا وبنها، ثم أخيراً إلى الزقازيق. ثارت الأسئلة والشكوك فى أذهان الجميع ولم تكن هناك إجابة شافية واحدة. لكن الشاب كان يتساءل فى نفسه هل سيذهب إلى الجامعة أم لا؟ فهى الحلم الذى انتظره طويلاً. ولم يجد الأب سوى كلمة واحدة انتظروا البيان وسنعرف كل شىء.

مرت خمس عشرة دقيقة وكأنها عمر بكامله حتى دقت الساعة تمام الثانية والنصف ظهراً، الراديو مفتوح بأعلى صوت، الأغانى الوطنية تثير الحماسة، هناك شىء مهم بالفعل، والكل ينتظر سماع نشرة الثانية والنصف ظهراً. وجاءت الكلمات الثلاث الأولى: قواتنا المسلحة ترد عدواناً إسرائيلياً. كان الأمر بمثابة شفرة للتاريخ، فمصر لم تهاجم، ولكنها ردت العدوان الأكبر على أراضيها منذ يونيو 67. فى هذه اللحظة لم يكن مهما آنذاك من بدأ القتال، المهم هو أن قواتنا كبدت العدو خسائر جسيمة، حسب البيانات العسكرية التى صيغت بدقة شديدة والتى توالت تباعاً وأكدت أن قواتنا نجحت فى تطوير العمليات العسكرية إلى الناحية الأخرى من القناة. إنها أرضنا ومن حقنا أن نتحرك فيها دون قيود.

لقد عبر الجيش المصرى القناة وخط بارليف المرعب حسب الدعاية الصهيونية، وصب كل ما استطاعه من صواريخ وقذائف وقنابل على دُشم خط بارليف وأسر من أسر وحطم ما أمكن تحطيمه. فى هذه الظروف بدأت حياة الحرب تفرض نفسها على المصريين جميعاً. الكل تسابق فى دهان زجاج الشبابيك باللون الأزرق، والبعض أقام بناء من الطوب الأحمر فى مداخل العمارات بغية امتصاص الصدمات المتوقعة من قنابل أو متفجرات، وبدأت تجمعات الجيران تتبادل الأخبار ومن سمع ماذا وفى أى إذاعة، وهل صحيح تقدمت قواتنا إلى منتصف سيناء، وهل أسرنا قوات إسرائيلية بالفعل وكم عددها، وهل فيها رتب كبيرة، أم أنهم مجرد عدد محدود من الجنود الصغار.

أسئلة معجونة بالقلق عكست شغف الناس فى معرفة تفاصيل ما يجرى، وهنا كانت بيانات القوات المسلحة بمثابة الغذاء الشافى، كانت واضحة وموجزة ودقيقة، وجاءت اللقطات المصورة ومقاطع الأفلام التى عرضها التليفزيون المصرى عن عبور قواتنا المتحمسة للثأر وتحرير الأرض وعن دشم خط بارليف المحطمة وعن الأسرى الإسرائيليين وهم قابعون على الأرض فى خطوط طويلة وأعينهم موجهة إلى أسفل لتوفر الأمان بأن ما حدث فى 67 لن يتكرر مرة ثانية.

فى هذه الأيام الأولى للحرب، رتب المصريون أنفسهم على قتال وحرب قد يمتدان طويلاً، خاصة أن الولايات المتحدة الداعم الأكبر للهمجية الإسرائيلية أكدت فى بيانات وتصريحات مطولة أنها لن تسمح بهزيمة إسرائيل، وسوف تزودها بالعتاد العسكرى الضرورى لمواجهة الهجومين المصرى والسورى. تشكلت فى الأحياء مجموعات المقاومة الشعبية وظهر بعض قيادات الجيش فى الشوارع يوجهون هذه المجموعات التى يبدأ عملها مع قدوم الليل وحتى الصباح وهدفها منع حدوث أى تجاوز من أى نوع، والمساعدة فى تأمين المؤسسات والمبانى العامة. ظهرت قيمة وأهمية هذه المجموعات حين بدأت بعض الطائرات الإسرائيلية التى أمكنها اختراق المجال الجوى المصرى فى إلقاء أنواع من المتفجرات صغيرة الحجم على المناطق المدنية والريفية المأهولة فى صورة لعب أطفال وأشكال تشد الانتباه بغرض إحداث أكبر عدد ممكن من الإصابات فى المدنيين. كان دور مجموعات المقاومة الشعبية يكمن فى توعية البسطاء بعدم أخذ أى شىء غريب بعد أى غارة إسرائيلية والإسراع بإبلاغ المجموعة الشعبية أو قسم البوليس بوجود الجسم الغريب. والشىء بالشىء يذكر توعية الكل من ظهور غرباء فى المكان، أو يسألون عن أشياء غير معتادة.

كان من المعتاد حين تصدر صافرات الإنذار أصواتها المزعجة، أن يتبارى شباب المقاومة الشعبية فى الصياح بأعلى صوت «أطفئوا الأنوار.. أغلقوا الشابيك»، وبعدها يحدث الصمت الشديد، ويتحرك البعض إلى الملاجئ أو إلى الأدوار السفلية من المبانى بغية الحماية من قنبلة طائشة أو شظية غبية. وفى هذه الأثناء حدثت بالفعل واقعة لافتة، إذ تمكنت الدفاعات الجوية الأرضية من إسقاط طائرة إسرائيلية، وكانت الساعة آنذاك فى حدود الرابعة عصراً، وشاهد كثيرون الطيار الإسرائيلى يهبط بمظلته فى أرض زراعية قريبة من منزل الشاب. وحيث جرى الجميع للقبض على هذا المجرم، وتجمع أكثر من مائة فرد أحاطوا بالطيار وَهْمّ البعض بضربه تعبيراً عن الغيظ، غير أن شباب المجموعة الشعبية تمكنوا من الرجل، وأبعدوا الراغبين فى ضربه صائحين أنه أسير سوف ينفعنا، حتى وصلت قوة عسكرية وأخذت الطيار وذهبت به بعيداً.

مع استمرار المعارك على الجانب الآخر من القناة وفى عمق سيناء، كان مفاجأة شديدة الوطأة أن يعرف المصريون بحدوث ثغرة وعن انفلات بعض دبابات العدو إلى طريق السويس - القاهرة، ووجود قوات إسرائيلية فى مدينة السويس. وعندها بدأت قصص البطولة الشعبية ترد من هناك، لن يسمح الشعب وجيشه بوجود جندى على أرض الأبطال، وقد كان.