كيف تتفاوض الولايات المتحدة مع الصين في الاجتماعات المغلقة؟

كيف تتفاوض الولايات المتحدة مع الصين في الاجتماعات المغلقة؟

كيف تتفاوض الولايات المتحدة مع الصين في الاجتماعات المغلقة؟

يقولون إن التاريخ سوف يذكر للأبد للرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» أنه جعل كلمات مثل «الرسوم الجمركية» و«الحرب التجارية» أحد الشواغل الأساسية للمواطن العادى، وأنه حوّل قضايا التجارة العالمية إلى موضوع يتناوله الناس فى محادثاتهم حول مائدة الطعام كما يتناولون عشاءهم.

صارت القضايا الكبرى التى لا يهتم بها عادة غير المتخصصين «دردشة» يومية حتى لغير المتعلمين فى أمريكا، سواء كانوا من كبار رجال بورصة «وول ستريت» أو من الطبقة العمالية الذين لم يكملوا تعليمهم، لكنهم يناصرون بقوة رئيسهم الذى انتخبوه، ومن وعوده أن يعيد أمريكا «عظيمة مجدداً» بمنع الدول الأخرى من تحقيق مكاسب اقتصادية على حسابها. أما «روبرت لايتهايزر»، مستشار «ترامب»، والممثل التجارى الأسبق للولايات المتحدة، الذى كان هو المسئول الأول عن مفاوضات اتفاقيات التجارة بين الولايات المتحدة والصين، فيرى أن نجاح «ترامب» الحقيقى هو أنه غيّر إلى الأبد الطريقة التى ينظر بها الأمريكان إلى الصين، وأنه جعل من يناصرون اتفاقيات التجارة الحرة، خاصة مع «بكين»، يفكرون مرتين قبل أن يعلنوا موقفهم أمام الآخرين.

«روبرت لايتهايزر» هو الرجل الذى كان يتولى فى إدارة «ترامب» الأولى مهمة التفاوض فى الملف التجارى مع دول العالم، ومن بينها الصين التى صار الناس ينظرون إليها على أنها الخصم الأول للولايات المتحدة. وهو يوصف بأنه أحد «الصقور» فى إدارة الرئيس الأمريكى السابقة الذين كانوا يرون فى زيادة الرسوم الجمركية على الواردات الصينية سلاحاً أو ورقة ضغط يمكن استخدامها فى المفاوضات مع الصين للتوصل إلى حل يعيد بعض التوازن إلى الخلل فى علاقات التبادل التجارى بين البلدين، والتى تميل بقوة لصالح الجانب الصينى («جايميسون جرير» تلميذ «لايتهايزر» وكبير موظفيه السابق يشغل فى إدارة «ترامب» الحالية نفس المنصب الذى كان يشغله رئيسه من قبل: الممثل التجارى الأمريكى، ويحمل نفس أفكاره).

..

فى نهايات عام ٢٠٢٣ أصدر «لايتهايزر» كتاباً شديد الأهمية، حمل عنوان «لا توجد تجارة حرة»، أقرب إلى مذكراته حول الفترة التى قضاها كمسئول عن مفاوضات الاتفاقيات التجارية للولايات المتحدة مع شركائها وخصومها. تلك المرحلة التى يمكن وصفها بأنها الحرب التمهيدية، أو الحرب التجارية الأولى التى شنها «ترامب» ضد الصين فى ولايته الأولى واستمر على نهجها بشكل أكثر حدة فى رئاسته الثانية. يحكى «لايتهايزر» عن تلك المرة الأولى التى جلس فيها فى قصر «مارالاجو» الذى يقيم فيه «ترامب» فى ولاية «فلوريدا» بعد انتخابه رئيساً للمرة الأولى عام ٢٠١٦، وبينما كان يجلس أمام الرئيس المنتخب، الذى يشاركه الكثير من قناعاته وأفكاره حول التجارة، أدرك «لايتهايزر» كما يقول فى كتابه إن «ترامب» لم يكن يعرض عليه مجرد منصب حكومى، وإنما فرصة لخوض المعركة التى كان يستعد لها طيلة عمره: معركة تشكيل سياسة تجارية للولايات المتحدة تدعم المجتمع الأمريكى، خاصة طبقة العاملين فيه.

يقول «لايتهايزر»: «كنت أعلم ما الذى سأواجهه، أربع سنوات من العمل طيلة أيام الأسبوع لمدة ١٨ ساعة يومياً، أخوض فيها أنا وفريقى معارك مع أصحاب الأعمال الضخمة، وأنصار العولمة والتجارة الحرة، وسأواجه معهم أيضاً رجالاً من كل القطاعات فى الصين والمكسيك وكندا وأوروبا ممن سيريدون الدفاع عن مصالحهم التى تسير فى مسار مختلف عن مصالح العمال الأمريكان».

كان هذا الكلام أشد ما يكون وضوحاً فى حالة التفاوض مع الصين، التى تتركز عليها أنظار العالم حالياً باعتبارها الطرف الفعلى المقابل فى الحرب التجارية التى أعلنها «ترامب» ووصلت إلى ذروتها فى أبريل الحالى. كان كتاب، أو مذكرات «لايتهايزر» تقدم رؤية لفترة مشابهة، وإن كانت أقل حدة عما يحدث الآن، استعرض فيها تفاصيل المفاوضات التى كانت تدور بين البلدين فى بداية رئاسة «ترامب» الأولى، عندما كان الرئيس الأمريكى يسعى لتحقيق مكاسب من الصين مع الحفاظ على الابتسامات الدبلوماسية وفتح المجال للأخذ والرد والتفاوض، قبل أن يكشر الجانبان عن أنيابهما فى فترة «ترامب» الرئاسية الثانية، من دون أن يبدو أن أحد الطرفين ينوى التراجع عن موقفه فى المستقبل القريب.

لكن من الممكن جداً أن يكون هذا أيضاً مجرد جزء من عملية التفاوض بين الجانبين.

ما يهمنا فعلياً فى كتاب «لايتهايزر» ليس مجرد التفاصيل التقنية الدقيقة للمفاوضات التجارية الأمريكية مع الصين، وإنما الطريقة التى كان ينظر بها كل طرف إلى الطرف الآخر أثناء عملية التفاوض. ما الذى كانت تريد الصين تحقيقه، وما الذى كانت تسعى الولايات المتحدة إليه؟ كيف كان كل طرف يحاول استغلال نقاط ضعف الطرف الآخر، وما الذى كانت التعاملات بين قيادات البلدين تبدو عليه فى الاجتماعات المغلقة عندما تنسحب الكاميرات وتتوارى الابتسامات ولا تبقى إلا لغة المصالح والقوة التى لا تعرف التفاهم أحياناً؟.

كتاب «لايتهايزر» إذن هو فرصة نادرة لكى نسمع شهادة أحد الحاضرين، ممن رأوا بأعينهم طريقة التفاهم (أو عدم التفاهم) بين الجانبين الصينى والأمريكى، كما تجرى فعلياً على الأرض، بوقائع ثابتة ومؤرخة، لا كما نسمعها فى التصريحات الرسمية أو البيانات النارية التى لا نفهم من أين أتت ولا إلى أين ستصل، ولا كما نحاول قراءتها بين سطور التحليلات التى «تتوقع» ما يمكن أن يكون قد جرى أو سيجرى بغير علم.

يمكننا أن نبدأ مع «لايتهايزر» من زيارة الرئيس «ترامب» الأولى للصين فى ٩ نوفمبر من عام ٢٠١٧، التى أعطت إشارة البدء للتفاوض التجارى بين البلدين على أعلى المستويات. يقول الممثل الأمريكى التجارى الأسبق فى كتابه: «سارت السيارة الرئاسية الأمريكية المعروفة باسم «الوحش» فى شوارع العاصمة الصينية «بكين» بينما يجلس فيها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب. كانت تلك هى الزيارة الرسمية الأولى لـ«ترامب» وإدارته إلى الصين. تم مد البساط الأحمر للرئيس الأمريكى، بينما عزفت فرقة أوركسترا عسكرية السلام الوطنى الأمريكى فى الوقت الذى يسير فيه الرئيس الأمريكى جنباً إلى جنب مع الرئيس الصينى «شى جين بينج»، أمام حشود من الأطفال الذين يلوحون بالأعلام الصغيرة الصينية والأمريكية». ويواصل: «كانت تلك هى المحطة الثالثة فى أول جولة آسيوية للرئيس الأمريكى منذ أن تولى الحكم، بدأت بزيارة إلى اليابان ثم كوريا الجنوبية، إلا أن المحطة الأهم فى الزيارة كانت هى الصين. قبل انتخابه رئيساً، كان «ترامب» يحشد بقوة خلال حملته الانتخابية ضد الخلل الذى يحكم علاقتنا التجارية مع الصين، وكان ينتقد بشدة ممارسات الصين غير العادلة. والواقع أن المسئولين الصينيين كانوا يدركون ذلك جيداً وأعدوا العدة لكسب ود الرئيس الجديد من خلال ترتيب زيارة إلى مقر إقامته فى منتجع «مارالاجو» فى «بالم بيتش» فى أبريل عقب تنصيبه. ونجحت تلك الزيارة، بصورها التى لا تمحى من الذاكرة مُظهرة حفيدة «ترامب» وهى تغنى أغنية بلغة «الماندارين» الصينية أمام الرئيس الصينى المبتسم وقرينته، فى أن يبدأ الزعيمان الأمريكى والصينى تعاملهما على أرضية جيدة».

ويتابع «لايتهايزر»: «وبالفعل، فإن الرئيس «ترامب» تربطه علاقة شخصية جيدة بالرئيس «شى جين بينج»، لكن على الرغم من ذلك، ظل «ترامب» محافظاً على موقفه حول ملف التجارة مع الصين. كان «ترامب» قادراً على أن تكون له علاقات طيبة مع زعماء العالم دون أن يتعارض ذلك مع قدرته على اتخاذ قرارات حازمة فى مواجهتهم. ولدى وصولنا إلى بكين فى نوفمبر ٢٠١٨، استمرت المبادرة الصينية لكسب الود، وفى تحرك غير مسبوق، اصطحب الرئيس الصينى وقرينته كلاً من الرئيس «ترامب» وقرينته «ميلانيا» فى جولة شخصية إلى «المدينة المحرمة»، التى تقع فى قلب «بكين» وكانت يوماً ما مقراً لحكم أباطرة الصين القدامى. وأعقب الجولة حفل فى الأوبرا فى المدينة الإمبراطورية ومن بعده عشاء خاص».

وفى اليوم التالى، بدأت المفاوضات الرسمية بين وفدى البلدين حول ملف التجارة.

يحكى «لايتهايزر»: «كل من وفدى المفاوضات الأمريكى والصينى كانا يجلسان فى صفين متوازيين، يواجه كل منهما الآخر وبينهما طاولة اجتماعات هائلة الحجم. جلس الرئيس «ترامب» فى المنتصف من أحد الجانبين وفى مواجهته على الجانب الآخر جلس الرئيس الصينى «شى جين بينج». وعلى الرغم من الدفء الذى اتسمت به مراسم الاستقبال، كان هذا الاجتماع فى الأساس لقاءً بين الصفوف القيادية لجيشين يواجهان بعضهما. بالطبع، وكعادة تلك الاجتماعات، كانت الكلمات الافتتاحية محسوبة ومدروسة تزن مسبقاً تداعيات كل عبارة يتم استخدامها. قرأ الرئيس «شى» بيانه الرسمى، وأعقبه الرئيس «ترامب». كانت البيانات ودية، وتتناول المسائل بأكثر العبارات دبلوماسية. ووفقاً للبروتوكول، تحدث وزيرا خارجية البلدين بعدهما، ثم نظر إلى الرئيس «ترامب» معلناً أن دورى قد حان لكى أخاطب الجانب الصينى حول موقفنا من التجارة».

ويتابع «لايتهايزر»: «على مدى الدقائق التالية، وبطريقة شديدة الاحترام لكنها مباشرة وواضحة، شرحت للقيادات الصينية خواطرنا حول الموقف التجارى الحالى. تحدثت عن مسائل مثل سرقة التكنولوجيا، والفشل فى حماية الملكية الفكرية، والسرقة الرقمية، وعدم إحراز أى تقدم فى المحادثات المتعددة التى تم عقدها فى عهد الإدارتين السابقتين («جورج بوش» و«باراك أوباما»)، بالإضافة إلى العجز التجارى الهائل. حاولت أن أشرح الأمور من وجهة نظرنا، وأن الشعب الأمريكى ينظر إلى علاقتنا الاقتصادية مع الصين على أنها علاقة غير عادلة وغير متساوية يصعب الحفاظ عليها، وأنها قد أثرت على حياة العديد من الأشخاص فى الكثير من المجتمعات الأمريكية».

ويتابع: «يبدو أن الصينيين قد فاجأهم كلامى. توقفت الأمور لفترة بينما المجتمعون يحاولون التوصل لاستجابة متناسبة مع هذه الصراحة التى انطلقت فجأة وسط اجتماع منسق بعناية بالغة. لم يكن من المألوف فى هذا المجال أن يكون هناك حديث صريح وناقد عند مخاطبة أعلى السلطات فى الحزب الشيوعى الصينى. وبعد انتهاء دورى فى الكلام، وكما لو كان الأمر باتفاق صامت، عاد أعضاء الوفد الصينى لقراءة كلماتهم التى أعدوها من قبل. لم تكن هناك استجابة مباشرة لكلامى، على الرغم من أننى أتصور أنه قد أثار نقاشاً وردة فعل معتبرة وراء الكواليس. وعندما انتهى الاجتماع، جاءنى الرئيس «ترامب» طالباً منى أن يقرأ البيان الذى قلته، فأخبرته أننى لم أجهز بياناً مكتوباً، وأن ما قلته كان أقرب لخواطرى التلقائية حول التجارة».

أعقبت هذه الزيارة الأولى جولات مفاوضات متواصلة على امتداد سنوات رئاسة «ترامب»، يروى «لايتهايزر» فى كتابه: «فى ٣ مايو ٢٠١٨ التقينا بنائب رئيس مجلس الدولة فى جمهورية الصين الشعبية وقتها «ليو هى». كان من المقربين للرئيس الصينى (ومستشاره الاقتصادى) ولم يكن ينظر إليه على أنه واحد من المتشددين الذين يفضلون المواجهة، بل كان قادراً على التعامل مع المواقف الصعبة على نحو جيد، وكان بإمكانه أن يطرح وجهة نظره من دون الاعتماد على الملاحظات المكتوبة. وتفهّم هو وفريقه الموقف، كانوا يتحدثون الإنجليزية وعلى دراية بالتاريخ والفلسفة الغربية. التقى الوفد الصينى بالوفد الأمريكى فى «بكين» من ٣ مايو وحتى ٤ مايو من عام ٢٠١٨. وكان الأفراد الرئيسيون فى الوفد الأمريكى هم أنا ووزير الخزانة «ستيفن منوشين» ووزير التجارة «ويلبر روس»، و«بيتر نافارو» المستشار التجارى للبيت الأبيض».

ويتابع «لايتهايزر»: «على مدار اجتماعاتنا، حاولت الصين أن تختبر مدى تجانس مجموعتنا ومدى توافق رؤيتنا من خلال اقتراح اتفاق جزئى يمكن له أن يخفف من الضغط على الصين ويرفع جزءاً من الرسوم الجمركية من عليها. كان هذا يشبه نفس الحوارات الماضية بيننا، عندما كانوا يماطلون معنا. أنا واثق أنهم كانوا يدركون أنه، كما هو الحال فى معظم المجموعات التى تضم قيادات حكومية، هناك اختلاف فى وجهات النظر بين أعضاء إدارة «ترامب» حول كيفية التعامل مع الصين. فمثلاً، أنا و«بيتر نافارو» كنا نعارض بقوة أى اتفاق جزئى بيننا وبين الصين، كنا نرى أن القبول به سيضعف من موقفنا ويجعل من الصعب علينا إحراز تقدم ملموس، بينما كان الوزير «منوشين» يتقبل مثل هذا الاتفاق إلى حد ما، وبمجرد أن أبدى «منوشين» بعض الانفتاح على المقترح الصينى، انفجر «نافارو» غاضباً فى وجهه أمام أعضاء الوفد الصينى. وكان علىّ أنا أن أتعامل مع الانقسامات الواضحة فى مجموعتنا لكى نقاوم جهود الصين المتكررة لكى تجعلنا نقبل بصفقة سهلة وسريعة. كان الرئيس «ترامب» يريد عقد اتفاق مع الصين فقط لو كان من أقوى ما يمكن، وقادراً على أن يحدث تغييراً واضحاً فى الموقف، وكنا نحن على بعد سنوات ضوئية من التوصل لمثل هذا الاتفاق».

ويواصل «لايتهايزر»: «فى وقت لاحق من هذا الشهر، وصل نائب رئيس مجلس الدولة الصينى مع الوفد المرافق له إلى «واشنطن» فى اجتماعات استمرت لثلاثة أيام. كانت الخطة أن تركز هذه الاجتماعات على إعادة التوازن إلى العلاقة التجارية بين البلدين. ومرة أخرى، أراد الوفد الصينى التوصل إلى اتفاق لا يتناول إلا بعض المسائل التى تعهدت الصين من قبل فى عدة مناسبات بالالتزام بها مع عدم الوفاء بهذه التعهدات. وفى إحدى الأمسيات، تناول الوفدان العشاء فى «كافيه ميلانو» فى منطقة «جورجتاون»، كان هناك عشرة أشخاص من كل جانب، بمن فيهم السفير الصينى و«جاريد كوتشنر» صهر الرئيس «ترامب» ومستشاره، وظل الجانب الصينى خلال العشاء، كما خلال الاجتماعات، يدفع من أجل التوصل لصفقة مصغرة. كان مثل هذا العشاء يقدم فرصة لبناء العلاقات بين الجانبين من أجل التوصل لاتفاق، لكنه كان يشكل خطراً أيضاً فى أن يلاحظ الجانب الصينى نقاط ضعفنا لو أن أحد أعضاء الوفد الأمريكى تخلى عن حذره».

ثم يستمر «لايتهايزر» فى استعراض صولات وجولات المفاوضات الأمريكية - الصينية فى عهد إدارة «ترامب» الأولى والتى تكاد تكون تكراراً لمشهد واحد: الطرف الأمريكى يرى نفسه على أنه «الطرف الجريح» بتعبير «لايتهايزر» فى العلاقة التجارية مع الصين، ولا ينوى رفع الرسوم الجمركية المفروضة على الصين، ولا الاستجابة لمطالبها بتقليل القيود على الصادرات التكنولوجية الأمريكية خاصة ذات الطبيعة الحساسة والمتعلقة بالأمن القومى إلى الصين، بينما تتعهد «بكين» عادة بزيادة مشترياتها من المنتجات الزراعية ومنتجات الطاقة الأمريكية لإعادة بعض من التوازن المفقود إلى الميزان التجارى الذى يميل لصالحها، لكن من دون أن تتعهد بشكل يرضى الولايات المتحدة بالتعامل مع قضايا مثل سرقة براءات الاختراعات أو الملكية الفكرية التكنولوجية أو السرقات الرقمية التى تعتبرها الولايات المتحدة تهديداً مباشراً ومستمراً لها.

ثم تأتى حروب الرسوم الجمركية الأولى بين الطرفين فى عهد رئاسة «ترامب» السابقة، التى استمر تصاعدها حتى ظهور وباء «كوفيد ١٩» الذى قلب موازين الدنيا من جديد.

ما يهم «لايتهايزر» هنا ليس هو النجاح الذى تحققه الولايات المتحدة مع الصين فى الملف التجارى فقط، فالتجارة مكسب وخسارة، والمفاوضات نقاط تخسرها أحياناً لتربح على المدى الطويل. ما يهتم به المستشار التجارى الأمريكى الأسبق كما يظهر فى صفحات كتابه هو تغيير قواعد اللعبة نفسها، تلك اللعبة بين أمريكا والصين التى كانت تربح فيها «بكين» ما هو أكثر بكثير من أرقام الصادرات والواردات.

يقول «لايتهايزر» فى كتابه: «إن إدارة «ترامب» تستحق أن ينسب لها الفضل فى تغيير الطريقة التى ينظر بها الأمريكيون إلى الصين إلى الأبد. صارت هناك صعوبة متزايدة فى اتخاذ الخط المؤيد للصين على نحو صريح، كما كانت النخبة السياسية ورجال الأعمال يفعلون لعقود مضت. كل الإدارات الأمريكية حاولت التفاهم مع الصين فى عهد الرؤساء «بيل كلينتون» و«جورج بوش» و«باراك أوباما» لأكثر من عشرين عاماً دون جدوى».

إلا أن تعامل إدارة «ترامب» مع الملف الصينى يواجه دائماً انتقادين رئيسيين منذ فترته الرئيسية الأولى. أولهما هو أن رفع الرسوم الجمركية ليس هو الحل الأمثل لمواجهة التهديد الصينى، وأن «ترامب» ريما يكون قد وضع يده على المشكلة فى خلل الميزان التجارى بين البلدين لكنه لم يضع يده على الحل. أما الاعتراض الثانى فهو أن الولايات المتحدة تتخذ قراراتها بشكل أحادى عند مواجهة الصين، وأنه من الأفضل لها أن تحشد حلفاءها فى دول الاتحاد الأوروبى واليابان مثلاً لتشكيل جبهة موحدة ضد التهديد الصينى.

عن تلك الاعتراضات يقول «لايتهايزر»: «إننى أتفق مع من يقولون إنه لو كانت دول الاتحاد الأوروبى واليابان قد فرضت رسومها الجمركية الخاصة على الصين بالتزامن معنا لكان لهذا التحرك المشترك أثر جيد. لكن هذا مجرد خيال وتصور مثالى، خاصة عام ٢٠١٨ عندما كانت المستشارة الألمانية السابقة «أنجيلا ميركل» وهى أكبر المدافعين عن الصين فى قلب الاتحاد الأوروبى، ثابتة فى موقعها داخل مقر المستشارية الألمانية. لم تكن أمامنا فرصة لأن توافق أوروبا على تحرك مشترك ضد الصين. ونفس الحال بالنسبة لليابان نظراً لارتباطاتها الخاصة مع الصين بالإضافة إلى توجهها العام الذى لا يميل إلى المواجهة فى شئونها الخارجية. وهكذا، فإن انتظارنا لقيام تحالف مشترك مع الحلفاء لمواجهة الصين كان يعنى أن علينا أن ننتظر إلى الأبد، وليس أدل على ذلك من أن إدارة الرئيس السابق «جو بايدن» قد حاولت حشد دعم الحلفاء ضد الصين دون أن تحقق هذه المحاولات تأثيراً يذكر».

أما رد «لايتهايزر» على أصحاب الاعتراض الثانى، ممن يرون أن «ترامب» رغم تشخيصه لمشكلة الصين بشكل صحيح إلا أنه تعامل معها بالشكل الخطأ، فكان رداً أكثر صلابة وعنفاً. وصفهم الممثل التجارى الأمريكى الأسبق بأنهم من نوعية الأشخاص الذين يشاهدون الأحداث ولا يملكون معلومات عن تفاصيلها لكنهم لا يكفون عن الإدلاء بآرائهم الجاهلة حولها. ويقول: «يمكننى القول إن المعارضة ضد قرارات «ترامب» تنقسم فى أغلبها إلى ٤ فرق: هؤلاء الذين لا يرون أن الصين تشكل تهديداً حقيقياً بالفعل لكنهم لا يملكون الجرأة لإعلان ذلك على الملأ. ثم هؤلاء الذين لم يلقوا قط نظرة فاحصة على المشكلة ولا على حلولها المقترحة. وبعدهم يأتى هؤلاء الذين لا يريدون لأسباب سياسية، أن يمنحوا الرئيس «ترامب» التقدير الذى يستحقه، وأخيراً، هؤلاء الذين يرون أن نظام التجارة العالمى ومنظمة التجارة العالمية أكثر قيمة وأهمية من المصالح القومية للولايات المتحدة. ولو استخدمنا عبارات أكثر حدة لقلنا: إن أى شخص يتفق معنا فى أن الصين تمثل مشكلة لكنه يصر على أنه يوجد لهذه المشكلة حل سحرى لا يسبب إزعاجاً فهو على الأرجح شخص كاذب أو مغفل أو ساذج أو مناصر للعولمة لا يرجى شفاؤه، أو مزيج من كل ما سبق».

انتهت كلمات «لايتهايزر»، لكن مفاجآت «ترامب» لن تنتهى.


مواضيع متعلقة