رفعت رشاد يكتب: موتسارت.. ألحان خالدة وقبر مجهول

رفعت رشاد يكتب: موتسارت.. ألحان خالدة وقبر مجهول
شاهدت منذ سنوات فيلم «أماديوس» عن عبقري الموسيقى فولفجانج أماديوس موتسارت، مع تحليل للفيلم قدمه المخرج المبدع عادل عوض. تأثرت كثيرًا بالفيلم وأحداثه، وأعترف أنني لم أكن أقدر موتسارت ما يستحقه من تقدير قبل مشاهدتي الفيلم وكان ذلك منذ سنوات. مؤخرًا وخلال بحثي عن بعض المقطوعات الموسيقية لسماعها تسللت إلى أذناي موسيقى موتسارت، وتذكرت الفيلم وأحداثه والمتعة التي شعرتها وقتذاك. كل ما حول موتسارت مفعم بالجمال، يجمع بين روعة الموسيقى وحرارة المأساة الإنسانية لذلك الفنان والإنسان، العبقري الذي غنّى للخلود، ومات في صمت ودفن في قبر مجهول. عام 1791 عن عمر 35 عامًا في مقبرة سانت ماركس بفيينا.
حين نهمس باسم «موتسارت»، فإننا لا ننطق مجرد اسم لموسيقي نمساوي عاش في القرن الثامن عشر، بل نستدعي روحًا موسيقية استثنائية، فريدة في نغمها، متوهجة في عبقريتها، وموجعة في مصيرها. إنه ولفجانج أماديوس موتسارت، الطفل المعجزة الذي خطّ أعذب الألحان وهو لم يتجاوز العاشرة، وفارق الحياة وهو في الخامسة والثلاثين، تاركًا خلفه إرثًا موسيقيًا يخلّد الإنسان في أنبل ما فيه: إحساسه العميق بالحياة.
وُلد موتسارت في مدينة سالزبورج عام 1756، لأب موسيقي، آمن بموهبته منذ طفولته الأولى، فصار يعلمه، ويعرضه على نبلاء أوروبا كأعجوبة لا تتكرر. ولم يكن الأمر مبالغة، فقد كتب أولى سوناتاته وهو في الخامسة، وأكمل أول أوبرا وهو لم يبلغ الثانية عشرة، وكانت ألحانه تحمل نضجًا مبكرًا، لا تفسير له إلا أنه موهبة من السماء.
لكن العبقرية التي تألقت في قاعات فيينا وروما وباريس، عرفت أيضًا طريقها إلى الحزن. عاش موتسارت حياة مضطربة، تثقل كاهله الديون، فقلّ احترام الناس له مع مرور الوقت، خاصة بعدما ثار على تقاليد البلاط الإمبراطوري، رافضًا أن يكون مجرد مؤدٍ بين يدي الملوك. كان يؤمن أن الفن حرّ، وأن الموسيقى يجب أن تُعزف للحياة، لا للتسلية.
رغم هذا التمرد، بقي عطاؤه الموسيقي فيّاضًا. كتب أكثر من 600 عمل موسيقي، ما بين سيمفونيات، وسوناتات، وأوبرات، وقداسات كنسية. ومن أشهر أعماله: أوبرا زواج فيجارو التي تحمل سخرية اجتماعية لاذعة، وأوبرا الناي السحري التي تمزج الأسطورة بالفلسفة، وأوبرا دون جيوفاني التي تسبح في أعماق النفس البشرية، تتأمل الشرّ والخطيئة والعقاب.
وتبقى قداس الموت أو الريكويم أحد أعظم وأغرب أعماله على الإطلاق، فهو العمل الذي كتبه وهو يصارع الموت، وشعر داخله بأنه يكتب قداسه هو، كأنما كان يضع موسيقى لجنازته بيده. لم يكمله بنفسه، بل أتمّه تلميذه «سوسماير»، لكنه ظل يحمل روح موتسارت النقية الحزينة، وكأنه وداع موسيقي خالد من روح تستعد للرحيل.
رحل موتسارت فجأة عام 1791، في ظروف غامضة أثارت الكثير من الأساطير، ودفن في قبر جماعي بلا شاهد، بلا نعش فخم، بلا وداع يليق بعبقريته. وكأن الحياة أرادت أن تصفعه في النهاية، بعدما أسعد البشرية بموسيقاه!
لكن التاريخ أنصفه، فقد صار رمزًا للعبقرية الموسيقية، وصارت أعماله تُدرس وتُعزف في كل قاعات العالم. موسيقاه ليست مجرد أنغام، بل غذاء للروح، تعبير عن الحزن، والفرح، والحيرة، والتأمل. إنها لغة عالمية لا تحتاج إلى ترجمة، لأنها تهمس للقلب مباشرة.
كان موتسارت إنسانًا معذبًا، عاش بين العزف والقلق، بين الإبداع والفقر، لكنه في النهاية انتصر، لأن فنه بقي حيًّا، لا يموت، وقد خلدته أعماله وإبداعاته، فكم من ملوك دفنوا في أضرحة من ذهب، ولا يذكرهم أحد، وكم من فنان دُفن في قبر مجهول، وأصبح أيقونة للخلود.