فى خطوة مفاجئة أثارت قلقاً واسعاً فى القارة الأوروبية، أمرت السلطات الألمانية بطرد 3 رعايا أوروبيين ورابع أمريكى، بعد أن وجهت لهم اتهامات بـ«دعم الإرهاب» و«معاداة السامية»، على خلفية مشاركتهم فى احتجاجات شهدتها إحدى الجامعات فى العاصمة برلين، فى وقت سابق من أكتوبر الماضى، طالبوا فيها بوقف «حرب الإبادة الجماعية»، التى يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلى بحق أبناء الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة، فى وقت أعلنت فيه المجر انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية، لمنع تنفيذ مذكرة الاعتقال، التى أصدرتها المحكمة فى وقت سابق بحق رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، الذى قام بزيارة للدولة الأوروبية، رغم اتهامه بارتكاب «جرائم حرب»، و«جرائم ضد الإنسانية».
أوروبا تفقد «بوصلة العدالة الإنسانية»

أوروبا تفقد «بوصلة العدالة الإنسانية»
الرعايا الأوروبيون الثلاثة، اثنان من إيرلندا وآخر من بولندا، إضافة إلى الأمريكى الرابع، الذين أمرتهم سلطات الهجرة فى برلين بمغادرة ألمانيا قبل يوم 21 أبريل الجارى، أصدروا بياناً مشتركاً، وصفوا فيه قرار طردهم بأنه «محاولة لإسكات الأصوات المؤيدة للفلسطينيين، وكبت المعارضة السياسية»، واعتبروا أن هذا الإجراء من جانب السلطات الألمانية لا يختلف كثيراً عما قامت به إدارة الرئيس الأمريكى، دونالد ترامب، تجاه عدد من النشطاء المؤيدين للفلسطينيين، من بينهم الشاب محمود خليل، وهو من أصل سورى يقيم بصفة دائمة فى الولايات المتحدة، وخريج جامعة كولومبيا، الذى تم احتجازه، والتهديد بترحيله بعد مشاركته فى مظاهرة نددت بجرائم الحرب التى ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلى فى الأراضى الفلسطينية المحتلة.
وأعلنت إدارة الداخلية والرياضة فى برلين، المسئولة عن مكتب الهجرة فى العاصمة الألمانية، أنها أبلغت الرعايا الأربعة بإنهاء تصاريح إقامتهم، وقالت إن هذا الإجراء يرتبط باحتجاجات وقعت فى جامعة «برلين الحرة» فى أكتوبر 2024، حيث اقتحمت مجموعة من الأفراد أحد المبانى الجامعية، وتسببوا فى أضرار مادية كبيرة، منها كتابة «شعارات على الجدران»، وأوضحت أن التحقيقات الجنائية لا تزال جارية، لكنها لم تحدد ما إذا كانت الاتهامات تشمل الأشخاص الأربعة، الذين طُلب منهم مغادرة البلاد.
«الجارديان»: قرار برلين «خطوة غير مسبوقة تدعو للقلق»
واعتبرت صحيفة «الجارديان» أن ألمانيا تشهد حملة قمع ممنهجة ضد المعارضة السياسية، فعلى مدى العامين الماضيين، ألغت مؤسسات وسلطات ألمانية فعاليات ومعارض وجوائز، بسبب تصريحات تتعلق بفلسطين أو إسرائيل، من بينها «معرض فرانكفورت للكتاب»، الذى ألغى حفل تكريم الكاتبة «عدنية شبلى»، ومؤسسة «هاينرش بل»، التى سحبت جائزة «حنا آرنت» من الكاتبة «ماشا جيسن»، وكذلك «جامعة كولونيا»، التى ألغت تعيين الفيلسوفة «نانسى فريزر»، إضافة إلى تشويه سمعة مخرجى فيلم «لا وطن آخر»، وهما «باسل الأدرة، ويوفال أبراهام»، من قبل وزراء ألمان، ومؤخراً، تم إلغاء خطاب للفيلسوف «عمرى بوهم»، فى الذكرى السنوية لتحرير «معسكر بوخنفالد».
وأضافت الصحيفة أنه فى معظم هذه الحالات، تلوح اتهامات «معاداة السامية» فى الأفق، حتى عندما يكون المستهدفون من اليهود أنفسهم، وغالباً ما يكون الليبراليون هم من يقودون أو يتغاضون عن هذه الإلغاءات، فى حين يصفق لها المحافظون واليمين المتطرف من بعيد، وعلى الرغم من أن الحذر من تنامى معاداة السامية أمر مبرر، خاصةً فى ألمانيا، فإن هذا القلق يُستخدم بشكل متزايد كأداة سياسية لإسكات اليسار.
واتخذت ألمانيا مؤخراً خطوة جديدة تبعث على القلق، إذ بدأت تستخدم الآراء السياسية كذريعة لتقييد الهجرة، ففى تقرير نشره موقع «ذا إنترسبت»، تبيّن أن السلطات الألمانية تسعى إلى ترحيل أربعة أشخاص فى برلين، ثلاثة من مواطنى الاتحاد الأوروبى وأمريكى واحد، لمشاركتهم فى مظاهرات ضد الحرب الإسرائيلية على غزة، رغم أن أياً منهم لم تتم إدانته بأى جريمة، وأشار الموقع إلى أن الاتهامات الموجهة إلى النشطاء الأربعة تشمل «الإخلال الجسيم بالنظام العام، وعرقلة الشرطة خلال عملية اعتقال».
واعتبرت «الجارديان» أن استخدام قانون الهجرة لقمع الاحتجاجات السياسية يبعث برسالة واضحة إلى غير المواطنين فى ألمانيا: «إذا تحدثت، قد تخسر إقامتك، أو يتم ترحيلك»، فيما أكد خبراء قانونيون أن استخدام مفهوم «مصلحة الدولة العليا» كأساس قانونى للترحيل «أمر مشكوك فيه»، ورغم أنه يُستخدم لتبرير سياسة ألمانيا الخارجية تجاه إسرائيل، ومنها خطة المستشار القادم، فريدريش ميرتس، لدعوة رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، لزيارة برلين، رغم وجود مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية، فإنه لا يحمل أى وزن قانونى ملزم.
«فاينانشيال تايمز»: تهم «الإرهاب ومعاداة السامية» تلاحق «الأصوات المؤيدة لغزة»
وكذلك نقلت صحيفة «فاينانشيال تايمز» عن ألكسندر جورسكى، محامى الدفاع الذى يمثل اثنين من المتظاهرين فى برلين، قوله إنه لم يسبق له أن رأى قضية ترحيل تستند إلى مفهوم «مصلحة الدولة العليا»، والذى يعتبر أن «أمن إسرائيل هو جزء جوهرى من المصلحة الوطنية الألمانية»، كأحد مبررات قرار ترحيل أى من الرعايا الأوروبيين أو الأمريكيين، وأضاف المحامى الألمانى أنه لا يزال من غير الواضح ما هى الاتهامات الموجهة إلى الشبان الأربعة، فيما رفضت حكومة مدينة برلين تقديم مزيد من المعلومات، استناداً إلى «قوانين حماية البيانات».
ألمانيا تطرد رعايا أوروبيين وأمريكياً طالبوا بوقف «إبادة» الفلسطينيين
وأكد «جورسكى» أن السلطات الألمانية لجأت إلى استخدام قوانين الهجرة فى «قمع الحركات الاجتماعية» فى عدة مرات سابقة، وأضاف أنه لاحظ تزايداً فى هذا النمط منذ هجمات 7 أكتوبر 2023، مشيراً إلى أنه تعامل مع أكثر من عشر حالات لفلسطينيين وعرب آخرين، تم إلغاء وضعهم كلاجئين، أو إلغاء تصاريح إقامتهم، لمشاركتهم فى مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين، أو منشورات على وسائل التواصل الاجتماعى، اعتُبرت «داعمة للإرهاب»، وقال إن السلطات فسرت هذه الشعارات بشكل «غير عادل» على أنها دعم غير مباشر لحركة «حماس»، التى تصنفها الولايات المتحدة وكثير من دول الاتحاد الأوروبى على أنها «منظمة إرهابية».
المجر تنسحب من «الجنائية الدولية»
وفى خطوة أخرى «غير مسبوقة» أيضاً فى القارة الأوروبية، أعلنت المجر عن قرارها بالانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية، وذلك بعد ساعات من وصول رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، إلى بودابست، رغم أنه مطلوب للمحكمة، بموجب مذكرة توقيف تتهمه بارتكاب «جرائم ضد الإنسانية» و«جرائم حرب» فى غزة، وأشارت صحيفة «واشنطن بوست» إلى أن رئيس الوزراء المجرى، فيكتور أوروبان، يتمتع منذ سنوات بعلاقات ودية مع «نتنياهو»، وبعد يوم من إصدار المحكمة لمذكرة التوقيف فى نوفمبر الماضى، دعا «أوروبان» رئيس الحكومة الإسرائيلية لزيارة بودابست، وتعهد بأن المجر لن تنفذ المذكرة.
وتعتبر المحكمة الجنائية الدولية الملاذ الأخير لمقاضاة الأفراد على جرائم بموجب القانون الدولى، مثل الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، ورغم أن المحكمة لا تملك قوة تنفيذية، فإن مذكرة التوقيف تلزم 125 دولة موقّعة على «نظام روما الأساسى» باعتقال المطلوبين، ورغم أن إسرائيل ليست طرفاً فى «نظام روما»، لكن السلطة الفلسطينية انضمت إلى المحكمة فى 2015، مما يمنح المحكمة ولاية قضائية على الجرائم المرتكبة فى المناطق الفلسطينية، بما فى ذلك قطاع غزة.
«واشنطن بوست»: قرار «أوروبان» بالانسحاب من «المحكمة الدولية» يضع المجر فى مواجهة مع «نظام روما الأساسى»
وخلال مؤتمر صحفى مشترك مع «نتنياهو»، أواخر الأسبوع الماضى، قال «أوروبان» إن بلاده ستنسحب من المحكمة الجنائية الدولية، معتبراً أنها «أصبحت مسيَّسة»، وأضاف: «أؤكد أن إسرائيل يمكن أن تعتمد على المجر فى المستقبل»، ورد «نتنياهو» بتوجيه الشكر إلى «أوروبان» على قراره، الذى وصفه بـ«الشجاع»، وقال إنه «قدم الكثير من الأمور الرائعة لإسرائيل وللشعب اليهودى». وأشارت «واشنطن بوست» إلى أن المجر وقَّعت على «نظام روما الأساسى» فى 1999، وصادقت عليه فى 2001، خلال الولاية الأولى لـ«أوروبان» كرئيس للوزراء، لكنه، بعد عودته إلى السلطة فى 2010، أشار العام الماضى إلى أنه لن يلتزم بمذكرة التوقيف بحق «نتنياهو»، معتبراً أن المحكمة «تتدخل فى نزاع قائم لأغراض سياسية»، وأضافت أن الانسحاب الرسمى من المحكمة يستغرق عاماً كاملاً، وفقاً لنظام روما الأساسى، ونقلت عن وزير الخارجية الهولندى، كاسبر فلدكامب، قوله إن «على المجر الاستمرار فى الالتزام بالواجبات، حتى اكتمال الانسحاب».
وأضافت الصحيفة أن قرار «أوروبان» بالانسحاب من المحكمة الدولية قد يضع بلاده مجدداً فى مواجهة مع دول الاتحاد الأوروبى الأخرى، فجميع الدول الأعضاء الـ27، بما فيها المجر، أطراف فى «نظام روما الأساسى»، ومع ذلك، لـمَّحت عدة حكومات أوروبية أخرى، منها فرنسا وألمانيا، إلى أنها لن تعتقل «نتنياهو» فى حالة قيامه بزيارة أراضيها، مشيرةً إلى أن دولتين فقط سبق أن انسحبتا من المحكمة الدولية، وهما بوروندى فى عام 2017، والفلبين فى 2019.