رفعت رشاد يكتب: بين دوستوفسكي والدروبي

رفعت رشاد يكتب: بين دوستوفسكي والدروبي

رفعت رشاد يكتب: بين دوستوفسكي والدروبي

في تاريخ الأدب العالمي، يظل فيودور دوستويفسكي حالة استثنائية، لا لأنه كتب روايات خالدة فقط، بل لأنه اقتحم عوالم النفس البشرية بكل تناقضاتها، ونقل على الورق صراع الإنسان مع نفسه، مع المجتمع، ومع الإيمان والشك. كان صادقًا حتى العظم، حادًّا كالسيف في تعرية الروح، وهو في حاله تلك سبق فرويد في سبر أغوار النفس البشرية . كما أن الصدق في أعماله هو ما لمس قلب المفكر العربي , السفير الذي سيصبح رفيقه الأبدي سامي الدروبي .

سامي الدروبي لم يكن مجرد مترجم، بل كان مفكرًا وفيلسوفًا ودبلوماسيًا مثقفًا شغل منصب سفير الجمهورية العربية المتحدة إبان الوحدة العربية بين مصر وسوريا , وبعد الانفصال بكى وهو يقدم أوراق اعتماده سفيرا لسوريا إلى الرئيس جمال عبد الناصر , وقد مثل سوريا في أكثر من عاصمة، لكنه وجد في الترجمة ملاذًا، وفي دوستويفسكي مرآة. لم يكن يترجم كلمات، بل ينقل الروح. اختار أن يُقدّم الكاتب الروسي العميق إلى القارئ العربي بكل شفافية وحرارة وانفعال.

قرأ سامي الدروبي دوستويفسكي في مرحلة مبكرة من حياته، فتأثر به تأثرًا كبيرًا، وكأن الألم الذي يسكن كتابات الروسي هو ذاته الألم الذي عرفه الدروبي وعاش تأملاته الوجودية. لم تكن الترجمة مهمة أكاديمية، بل كانت نوعًا من التوحد العاطفي والنفسي، علاقة وجدانية بين روحين التقيا على الورق.

رغم مهامه الدبلوماسية، واصل الدروبي ترجمة غالبية أعمال دوستويفسكي، فترجم "الجريمة والعقاب"، و"الإخوة كارامازوف"، و"الأبله"، و"الشياطين"، و"مذكرات من تحت الأرض"، وغيرها. استغرق الأمر منه سنوات طويلة، بذل فيها من روحه أكثر مما يبذل الكُتاب في التأليف.

ما ميّز ترجمات سامي الدروبي هو قدرته الفائقة على نقل أسلوب دوستويفسكي بكل صدقه وحرارته. لم تكن اللغة العربية عنده مجرد أداة، بل كانت كائناً حيًا، يتنفس، يغضب، يبكي، ويحب. فجاءت ترجماته شديدة البلاغة، مليئة بالعاطفة، مشحونة بالفكر.

قبل ترجمات الدروبي، كانت أعمال دوستويفسكي متوفرة في ترجمات أخرى ، لكن مع الدروبي بدأ القارئ العربي يشعر بأن هذا الروسي الغريب يتحدث إليه مباشرة، وكأنّه يعيش في حاراتنا، ويمر بأزماتنا، ويطرح أسئلتنا الكبرى: عن العدل، والخير، والشر، والحرية.

بفضل سامي الدروبي، أصبحت أعمال دوستويفسكي متاحة بجودة عالية وسلاسة بليغة للقارئ العربي، ما أثرى المكتبة العربية بأحد أهم أعمدة الأدب العالمي. هذه الترجمات لم تكن مجرد كتب مترجمة، بل كانت جسورًا من الفهم الإنساني العميق بين ثقافتين، وبين زمنين، وبين قلبين.

دوستويفسكي في ترجمات الدروبي لم يكن فقط روائيًا، بل مفكرًا عميقًا يناقش قضايا الإنسان الكبرى. لذلك، كانت هذه الترجمات مصدر إلهام لأجيال من القرّاء والمثقفين العرب الذين وجدوا في هذه الروايات توازنًا بين المتعة الأدبية والتأمل الفلسفي.

رحل سامي الدروبي سنة 1976، لكن أثره باقٍ في كل قارئ يفتح رواية من ترجماته. لقد ترك خلفه إرثًا من الحب للغة العربية، ومن الوفاء للأدب الإنساني، ومن الإيمان بأن الترجمة ليست مجرد حرفة، بل رسالة تحمل الروح من ضفة إلى ضفة.

هكذا كانت علاقة سامي الدروبي بدوستويفسكي: علاقة عاشق لا يكتفي بالقراءة، بل يُعيد خلق النص بلغته، ويمنحه حياة جديدة. لقد أعاد دوستويفسكي إلى الحياة، لا في روسيا فقط، بل في العالم العربي، حين قرأناه بلغتنا، وفهمناه بقلوبنا، بفضل مترجم أحبّ ما فعل، فأتقنه حتى الخلود.


مواضيع متعلقة