رفعت رشاد يكتب: غزة المغدورة تباد.. والعالم المتخاذل يشاهد
في ليلة سوداء من ليالي غزة المثقلة بالجراح، أفاق أهلها– إن كانوا قد أفاقوا– على أزيز الطائرات الإسرائيلية وهي تمطرهم بوابل من القنابل الحارقة، فتهوي بيوتهم فوق رؤوسهم، ويتحول الأطفال والنساء إلى أشلاء تحت الأنقاض. مائتا غارة إسرائيلية في ساعات معدودة، أكثر من أربعمائة شهيد، ولا يزال العدوان مستمراً بلا هوادة، في مشهد لا يحمل إلا عنواناً واحداً: الغدر الإسرائيلي الممنهج ضد شعب أعزل.
ما إن توقفت المفاوضات الرباعية التي كانت تهدف– شكليًا– إلى التوصل إلى هدنة، حتى كشرت إسرائيل عن أنيابها بعدما تولى إيال زامير رئاسة أركان الجيش الصهيوني، وكأنها كانت تنتظر هذه اللحظة لتنقض على غزة، مدعية أن حربها مشروعة وأنها تدافع عن أمنها. ولكن، أي دفاع ذلك الذي يتجسد في إبادة أحياء بأكملها، ودفن عائلات تحت أنقاض منازلهم دون رحمة أو تمييز؟
بينما كانت الطائرات الإسرائيلية تلقي بحممها فوق رؤوس الغزيين، خرجت الإدارة الأمريكية ببيان يدين حركة حماس، متهمة إياها بأنها السبب في استمرار الحرب، متجاهلة أن ما يحدث ليس سوى استمرار لمسلسل التطهير العرقي الذي تمارسه إسرائيل منذ عقود. وكأن الضحية هي التي تتحمل مسؤولية قتلها، وكأن المطلوب من الفلسطينيين أن يموتوا بصمت حتى يرضى عنهم العالم «المتحضر»!
كالعادة لا نتوقع أن يتحرك المجتمع الدولي بشكل جدي لإيقاف هذا العدوان، فقد تعودنا على بيانات التنديد الخجولة، والعبارات الدبلوماسية الجوفاء، التي لا تتجاوز أروقة المؤتمرات الصحفية. الأمم المتحدة تدعو إلى التهدئة، الاتحاد الأوروبي يعبر عن «القلق البالغ»، أما الدول الكبرى فلا ترى في غزة سوى ساحة معركة، وليس مقبرة مفتوحة لشعب بأكمله.
وسط هذا الصمت المريب، تواصل مصر جهودها في محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه. فمنذ بداية الحرب، لم تتوقف القاهرة عن لعب دور الوسيط، وضغطت بشتى الوسائل لوقف إطلاق النار، وفتح المعابر لإدخال المساعدات الطبية والإنسانية. إلا أن التعنت الإسرائيلي لا يزال يحول دون تحقيق أي إنجاز كامل، في ظل دعم أمريكي مطلق لحكومة الاحتلال.
يحاول الإعلام الغربي تصوير الحرب كأنها مواجهة بين جيشين متكافئين، لكن الحقيقة أن الصراع يدور بين قوة نووية تمتلك أحدث التقنيات العسكرية وأسلحة الدمار الشامل، وبين شعب محاصر، لا يملك إلا الإرادة والصمود. فكيف لعاقل أن يساوي بين الطائرات الحربية والدبابات والصواريخ الذكية، وبين أطفال يختبئون تحت طاولات المدارس من القصف؟
في ظل هذا الواقع المرير، لا يبدو أن الحرب ستتوقف قريبًا، فإسرائيل وجدت في هذا العدوان فرصة لتصفية الحسابات وسحق المقاومة، بينما يستمر الفلسطينيون في دفع الثمن وحدهم. ومع غياب إرادة دولية حقيقية لإيقاف المجازر، ستظل غزة تنزف، ويظل أهلها يقاومون، إما بأجسادهم أو بكرامتهم التي تأبى الانكسار.
إذا كان العالم قد فقد ضميره، فإن التاريخ لا ينسى، والتاريخ يسجل أن شعبًا أعزل يُباد أمام أعين العالم، دون أن يتحرك ساكن. سيُذكر أن الأطفال الفلسطينيين قُتلوا في أماكن نومهم، وأن الغارات لم تفرق بين رضيع وعجوز. سيأتي يوم تُرفع فيه هذه الجرائم إلى ميزان العدالة، وإن تأخر.
ما يحدث في غزة ليس حربًا، بل جريمة إبادة، جريمة تستوجب محاسبة المحتل لا تبريره، إدانته لا دعمه. لكن في عالم تسيطر عليه القوة، يبدو أن القانون لا يُكتب إلا بأيدٍ باطشة، والعدالة لا تتحقق إلا حين تمتلك الشعوب أدواتها. وحتى ذلك الحين، سيظل صمود غزة شوكة في حلق المحتل، مهما طالت الليالي الحالكة.