ظاهرة «إبراهيم محلب».. «تجربة شخصية»!

مصطفى بكرى

مصطفى بكرى

كاتب صحفي

كان يدرك منذ البداية أنه جندى فى كتيبة الوطن، كان يقول دائماً أنا مجرد مواطن، أنا واحد من أبناء هذا الشعب العظيم، منذ سنوات طوال عرفته، لا يعرف الطريق إلى الهدوء، يصحو فى الخامسة من صباح كل يوم، يتوجه إلى نادى «المقاولين»، يمارس الرياضة، ثم يرتدى ملابسه ويمضى إلى المقاولين العرب ليكون أول الحاضرين هناك.

استطاع بفكره ورؤيته أن يحدث نقلة نوعية فى الشركة التى تعرضت لخسائر فادحة، كان ذلك هو التحدى الأكبر فى مواجهته، احتوى الغاضبين، وأعاد حق المظلومين، وبدأ فى فتح الأسواق المغلقة، ثم جاء بتقاريره أمام برلمان (2005 - 2010)، وكنا جميعاً نفاخر بها ونشيد به أثناء المناقشة.

بعد أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير، وإعلان الحرب «المكارثية» على الجميع، تم عزل إبراهيم محلب من منصبه كرئيس لمجلس إدارة المقاولين العرب، كانت جماعة الإخوان له بالمرصاد، أتذكر أنه فى عام 2012، التقينا أنا وهو والأستاذ عبدالنعيم آدم، عضو مجلس إدارة المقاولين فى لقاء خاص جلسنا ندرس هموم الوطن ومخاطر الإخوان، يومها التقانا اللواء محمد أمين، عضو المجلس العسكرى، جلس معنا لبعض الوقت، وكنا جميعاً مهمومين، لكن الأمل لم يفارقنا.

حكى لى إبراهيم محلب فى هذا الوقت عن مؤامرات الإخوان ضده، وكان همه هو شركة «المقاولين العرب» قال أشعر بأنهم يريدون تخريبها، وهذه ستكون كارثة، الشركة واحدة من أعمدة الاقتصاد فى البلد.

بعد الجلسة المطولة مضى إبراهيم محلب، كنت أشعر بحسرته على الشركة ومخاوفه على الوطن، غادر إلى السعودية، تلهفت عليه الشركات الكبرى، فتحت له الحكومة السعودية كل الأبواب بلا حدود، بلغ راتبه مبلغاً خيالياً، كان يؤلمه أن يزج باسمه فى قضية القصور الرئاسية بصفته رئيساً سابقاً لشركة المقاولين العرب، ووضع اسمه على قائمة «الترقب» فى المطارات والموانئ، بلا ذنب أو جريرة، كان يحدثنى من هناك، وكنت أحادثه هاتفياً، وكان يقول لى «كل الدنيا لا تهمنى ولكن أن أمنع من دخول بلدى، هذا يجعلنى أموت فى اليوم ألف مرة، أموال الدنيا كلها لا تهمنى، ولكن مصر فى دمى لا أستطيع الابتعاد عنها».

مضت الأيام واندلعت ثورة الثلاثين من يونيو، وبعد التحقيقات التى جرت فى القضية فى زمن حكم مرسى، استبعد محلب من أى مسئولية، تم الاتصال به وعرض عليه منصب وزير الإسكان، مصر محتاجة لك، قال «محلب» لمحدثه: «أسيب الدنيا كلها وآجى أشتغل عامل فى مصر».

فى ساعات محدودة أنهى كل أعماله وقرر العودة، فى اليوم الثالث من عودته، كان قد عُين وزيراً للإسكان، اتفقنا أنا وهو وشقيقى محمود، والوزير عادل لبيب على أن نلتقى فى حفل إفطار فى فندق «الموفنبيك» بالسادس من أكتوبر، وكان محلب يومها يتحدث عن معنى «الوطن والناس» بالنسبة له، وكان على ثقة من أن الفريق أول السيسى سيكون خيار الشعب المصرى المقبل، وكان يقول لو أن السيسى لم يفعل شيئاً فى حياته سوى انحيازه للشعب فى 30 يونيو، لظل بطلاً طيلة الدهر.

مضت الأيام سريعاً، وبعد اختياره فى 24 فبراير 2014 رئيساً للحكومة وأدائه للقسم، التقيته فى ذات المساء بمبنى مجلس الوزراء، وتحادثنا طويلاً فى المرحلة المقبلة، وكان الرجل متفائلاً رغم الظروف الصعبة، وعندما قلت له: «أنا أشفق عليك» قال: «علينا أن نتكاتف وأتمنى من الإعلام أن يعطينا الفرصة وأن يتم التوقف عن التشكيك، نحن جميعاً أبناء مصر ومستعدون لتقديم أرواحنا».

قلت له: عليك أن تتحمل، حملات بعض الإعلاميين والنشطاء لن تتوقف.

قال: إذا كانت صحيحة، فسأراجع نفسى، أما غير ذلك فثق بأننى سأمضى فى الطريق.

ظل مكتبه مفتوحاً للجميع، كنت أقول له: أخاف عليك من الزيارات الميدانية والمفاجئة دون حراسة تذكر، فكان يقول «الروح ياخدها ربك.. لازم نطمن الناس».

وعندما زار محافظة قنا على رأس وفد من 6 وزراء و10 محافظين لافتتاح مشروع التنمية المحلية للمشروعات الصغيرة، دعانى اللواء عادل لبيب للمشاركة فى الاحتفال، وعندما ذهبت وقابلت إبراهيم محلب، قلت له: يجب أن تزور بلدتنا، دار الأيتام والمعوقين، اعترضت المراسم لضيق الوقت، واعترض الأمن لأن المطلب لا يوجد فى الخطة والمخاوف الأمنية واردة، لكنه قال أمام مرأى من الجميع: «مصطفى ومحمود دول أعز إخواتى» وأنا حروح بلدهم «المعنى» مهما كان، وبالفعل قام بزيارة دار الأيتام ودار المعوقين، ثم عاد ليكمل زيارته.

يمتلك إبراهيم محلب قلباً نقياً، وروحاً إنسانية عالية، وعزيمة على العمل لا تلين، التقيته فى السابعة صباحاً فى مكتبه، والتقيته فى الواحدة صباحاً، وأتحدث معه أنا وغيرى فى أى وقت، ذاكرة حديدية، وعطاء لا يتوقف.

هناك أخطاء فى اختيارات بعض المسئولين، هذا أمر وارد، وهناك أخطاء فى بعض السياسات أمر لا يمكن إنكاره، وهناك تراجع فى معدلات أداء البعض هذا طبيعى، وهناك «محافظون» نالوا من رصيده، كل ذلك من الأمور التى تعودنا عليها، وأصبحت للأسف جزءاً من «ثقافتنا» ولكن «محلب» كان يحاول الترشيد دوماً، ووصل به الحال إلى حد عزل رؤساء أحياء ومديرى مستشفيات.

إن التاريخ وحده الذى سيقيّم فترة تولى «محلب» رئاسة الحكومة، غير أن رصيده الشعبى لا يزال عالياً، فالناس تعاملت معه على أنه منهم وبيشتغل وبيحب البلد، ورصيده من المقاولين العرب حيث أمضى فيها 11 عاماً وبعد خسارتها 4٫5 مليار أصبحت رابحة، مروراً بكل المحطات يجب أن يوضع فى حسبان التقييم الموضوعى.

كان الحديث يدور على أن «محلب» سيبقى حتى انتخابات البرلمان، وستكون هناك حكومة جديدة فى هذا الوقت، أو من يدرى، وكانت المعلومات تقول إن ما سيجرى هو مجرد تعديل ينال ستة أو سبعة وزراء وعدداً من المحافظين، لكن المفاجأة حدثت وألقت بدويّها بعيداً، فراح البعض يقول إنها قضية الفساد الأخيرة، وهناك من قال هذا بسبب انسحابه من المؤتمر الصحفى فى تونس، وهناك من قال اختياراته لم تكن دقيقة فى الوزراء والمسئولين وأنه جامل البعض، إلى غير ذلك من التحليلات والآراء.

قولوا ما تقولون، واطرحوا أسبابكم كما تشاءون، ولكن انزلوا إلى الشارع، واسمعوا رأى الناس فى «إبراهيم محلب» هناك ستكون المفارقة الكبرى، وهذا هو الاستفتاء الحقيقى على المسئول.

مشاعر «الناس» وأحاسيسهم لا تكذب، وأقل تكريم لإبراهيم محلب أن نقول له «شكراً» مصر لا تنكر جهود أبنائها المخلصين وتخلد فى ذاكرتها الشرفاء والمحترمين، أما قرار إقالته فى هذا الوقت فللرئيس أسبابه وقد ينتقل محلب إلى موقع آخر، لأن خبرته وقدرته على العطاء تتأكد يوماً بعد يوم.