وزارة التعليم العالى.. والاعتبارات القومية للمحسوبية!

لم أكن قد بلغت السابعة عشرة من عمرى وقتها.. حين ظهرت نتيجة الثانوية العامة وأعلنت أننى قد حصلت على مجموع كبير سيمكننى من تحقيق حلمى الذى تمنيته منذ صغرى.. سوف ألتحق بكلية الطب أخيراً.. سأصبح جراحاً شهيراً يشار إليه بالبنان.. كنت أعرف أن الطريق سيكون طويلاً جداً.. ولكننى وضعت قدمى على بدايته..!

ما زلت أذكر تلك الأيام جيداً.. فقد كانت فرحتى لا توصف.. نعم أنا ذلك المراهق الذى ما زال الشارب يتحسس طريقه إلى وجهه.. والذى شعر أنه قد امتلك الدنيا بما فيها حين بلغ حلمه الذى لم يحلم سواه.. ولكننى لم أكن أعرف أن الأمر ليس بهذه السهولة لمن هم مثلى.. وأعنى طلاب الأقاليم!!

لقد كان العام الأول الذى يتم تطبيق التوزيع الجغرافى فيه على خريجى الثانوية العامة.. فلم أستطع وقتها أن ألتحق بطب القاهرة.. وتم إعلان نتيجة التنسيق وقتها أننى صرت طالباً بكلية الطب بجامعتى الإقليمية فى تلك المدينة الصعيدية حيث أقيم.. لقد كانت فرحتى منقوصة وقتها.. ولكن لا بأس.. سوف أدرس الطب فى كل الأحوال.. فهم لا يدرسون التجارة بالتأكيد فى تلك الجامعة.. سأصير طبيباً وهذا هو المهم..!

لا أنكر أننى أصبحت أدين لكليتى الصغيرة بالفضل الشديد فيما وصلت إليه الآن.. ولا أخفيكم سراً أننى صرت أعشقها.. وأغير عليها بشدة. بل ربما بلغت غيرتى عليها ما كان عسيراً أن يحدث إذا ما انتميت إلى كلية عريقة كطب قصر العينى التى تخرج سنوياً الآلاف من الأطباء.. ولكن ظلت تلك الغصة فى حلقى كلما تذكرت حلمى القديم!

لماذا أقص عليكم هذا الآن؟!.. لقد مر أكثر من عشرين عاماً على تلك القصة.. الأمر واضح بالطبع.. فالحلم ما زال يتحطم عند كثير من طلبة الثانوية العامة حتى الآن.. وليس فى الطب فقط.. ولكن فى كليات عريقة أخرى كالإعلام والاقتصاد والعلوم السياسية.

لم تكن المشكلة هذا العام هى قانون التوزيع الجغرافى الذى يطبق منذ سنوات عديدة.. والذى أؤمن أنه السبيل الوحيد لتنمية الجامعات الإقليمية فى ظل ثقافة شعبية خاطئة وممتدة الجذور أن خريجى العاصمة هم أكثر مهارة بكل تأكيد.. المشكلة كانت فى تبريرات السيد المسئول بشأن ذلك القانون.. فقد صرح سيادته بأن طلاب الأقاليم لن يلتحقوا بكليات العاصمة لأنهم «بيعملوا زحمة»!!

لا أخفيكم سراً أننى شعرت بالمهانة الشديدة حين سمعت هذه الكلمة!!.. فما زلت ذلك الطالب الصعيدى الذى يتحسس طريقه نحو مستقبله.. والذى لا يروق له بكل تأكيد أن يصبح مرفوضاً فى كليته العريقة، التى سهر الليالى من أجل أن يلتحق بها، لأنه يزيد من ازدحام العاصمة!!

الصدمة الأكبر كانت فى ذلك الخبر الذى نشرته جريدة «الشروق» المحترمة والذى فحواه أن سيادة الوزير قد طلب تفويضاً لتحويل الطلاب بين الجامعات «لاعتبارات قومية».. تلك العبارة التى تعنى ببساطة أنه لا قانون من الأساس سوى اقتناع أو رغبة سيادته فقط..! والتى تعنى أيضاً أن فئات بعينها سوف تتمكن من تحقيق حلمها غير منقوص بالالتحاق بكلياتهم التى يرغبون.. وأنهم -ويا للعجب أيضاً- لن يتسببوا فى ازدحام العاصمة!!

سيقولون إن اعتبارات الأمن القومى فوق الجميع.. وسيبررون أن هؤلاء الطلاب لهم ظروفهم الخاصة.. والواقع أننا لم نصل إلى ما وصلنا إليه إلا بهذه العبارات عديمة المضمون!!

سيدى الوزير.. إن الأصل فى المجتمعات الناضجة أن الجميع سواء.. وتفضيل أحدهم على الآخر، خصوصاً فى هذه المرحلة العمرية، ينسف مفهوم العدالة لديهم.. لقد تحملت مسئولية وزارة تنشئ أجيالاً وتكوّن شخصيات يفترض فيها أن تكون سوية لتقود هذه الأمة..! ولن يقود الأمة مَن ظُلم لأنه ليس من أبناء العاصمة!!

سيدى.. لقد قابلتك مرات قليلة ويشهد تاريخك فى جامعة المنصورة أنك صاحب بصمة مميزة.. ولكن اسمح لى سيدى أن أخبرك أن الصواب قد جانبك هذه المرة.. وأن استثناء فئات معينة من قانون ينسف الدستور نفسه.. ووصف أصحاب المهام القومية لا ينطبق على القضاة والضباط فقط.. وإنما ينطبق على كل من يعمل فى هذا الوطن.. من الطبيب وحتى عامل النظافة..! سيدى.. إلغاء قرارك لا يكفى.. بل ينبغى أن تعتذر عنه علناً وأمام الجميع.. حتى تتم رسالتك التى أقسمت عليها يوم توليك المسئولية..!

استقيموا يرحمكم الله!!