عن الدولة والقانون والمؤسسات والعدل

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

فى الندوة التثقيفية الدورية للقوات المسلحة قبل ثلاثة أيام، تحدث الرئيس عبدالفتاح السيسى مطولاً حول قناة السويس الجديدة وعدد آخر من المشروعات القومية التنموية الكبرى تحت التنفيذ، رابطاً هذه المشروعات بحماية كيان الدولة ووحدة المصريين وبناء دولة حديثة وعصرية تستند إلى العلم ومنجزاته الكبرى. الدولة هى العنصر الحاكم فى ما يمكن أن نطلق عليه الرؤية الكلية للسيسى من حيث الحفاظ عليها وتثبيت أركانها، وبالتالى النجاة من المصائر الخطيرة التى انتهت إليها دول عربية عديدة حولنا.
على أية حال لا يجادل فى أن الدولة هى كيان مادى ومعنوى فى آن واحد يوفر للمنتمين إليها فرصة الحياة والكرامة والتطور، استناداً إلى مفهوم المواطنة الذى يعنى ببساطة شديدة مزيج المساواة والانتماء والمسئولية. وإذا كان وضع الدولة الاقتصادى يتأثر إيجاباً من خلال أداء اقتصادى كلى متوازن يتحقق من خلال المشروعات القومية الناجحة والمستندة إلى دعم ومشاركة شعبية، فالأصل فى بقاء الدولة هو تحقيق العدل بين الناس، وذلك يتحقق عبر شرطين أساسييْن؛ أولهما القانون بما فى ذلك الدستور الذى لا يعرف المحاباة بين مواطن أو آخر، وثانيهما المؤسسات الفاعلة التى تقوم على تطبيق القانون بعد صياغته صياغة عادلة ومتوازنة وبلا ثغرات. والنتيجة أن الحفاظ على كيان الدولة يتطلب مؤسسات نشطة تعرف دورها ومسئولياتها تجاه المؤسسات الأخرى وتجاه عموم الناس دون تجاوز أو افتئات. والمواطنون من جانبهم يتحملون مسئولية ليس فقط مراقبة هذه المؤسسات والضغط عليها إن خرجت عن مسارها المحدد، بل فى حُسن تطبيق القانون بالمعنى العام والشامل للتعبير، وبما يعطى كل ذى حق حقه بدون افتئات أو استعلاء أو تهرب من المسئولية.
نحن هنا أمام منظومة تحقق فى النهاية ما يعرف بالدولة الفاعلة، والتى هى عكس الدولة الفاشلة التى تبدأ بفساد المؤسسات وترهلها وفقدانها الدور والهدف، وتمر على فساد الناس أنفسهم، وتنتهى بأن تصبح مجرد كيان هلامى حتى لو وجدت على الخريطة رسمياً، وبما ينتهى إلى الانقسام والفوضى وتشرد العباد وضياع الدور وفقدان الهوية الجامعة. والخلاصة أن فشل المؤسسات وغياب القانون وضياع العدل بين الناس يقود إلى لا دولة ولا مجتمع، أعاذنا الله تعالى من شىء كهذا أو حتى قريب منه.
معروف أن أحد معايير فعالية المؤسسات الرئيسية التى تقوم عليها الدول يكمن فى الالتزام بالقانون دون تفرقة بين مواطن وآخر، وبما يوفر للقاعدة الشعبية الشعور اليقينى بتحقيق العدل، فيزداد الارتباط المعنوى بالدولة وترتفع درجة الانتماء إلى عنان السماء. والعكس صحيح. وللأسف الشديد تمر علينا أحداث تستقطب قدراً كبيراً من اهتمامنا العام ما كان ينبغى أن تكون كذلك. وللأسف الأشد تثير لدى القاعدة الشعبية نوعاً من الارتباك نتيجة غياب الشفافية وبما يضر مبدأى العدل والالتزام بالقانون، وبالتالى يوفر للمتربصين بمصر وأهلها مادة دسمة لإثارة الشكوك حول مستقبل نظام 30 يونيو، وقدرته على بناء دولة عصرية بحق.
وفى الأيام القليلة الماضية اتخذت مؤسسات إنفاذ القانون ممثلة فى وزارة الداخلية ولجنة التحفظ وإدارة أموال جماعة الإخوان الإرهابية قرارين؛ الأول قرار وزارة الداخلية بحبس إعلامى شهير تنفيذاً لأحكام قضائية واجبة النفاذ منذ عام ونصف على الأقل فى قضايا تتعلق بالنفقة وحقوق الطفل ولا علاقة لها بأية أبعاد سياسية. والثانى قرار لجنة التحفظ بالتحفظ على أموال أحد كبار المساهمين فى إحدى الشركات الكبرى العاملة فى صناعة الأغذية والعصائر باعتباره منتمياً للجماعة وممولاً لأنشطتها. وبينما لم يُثر القرار الثانى أية مجادلات أو مهاترات عامة ربما لثقة الرأى العام فى الدور الذى تقوم به لجنة التحفظ لمحاصرة الإرهاب من خلال السيطرة على مصادر التمويل، وذلك بعد تحريات وقرائن تتوافر لديها فتقوم باتخاذ القرار الصحيح. ومعروف أنه منذ مدة طويلة سرت شائعات ومعلومات حول انتماء هذا المساهم الكبير لجماعة الإخوان، وتأثرت أعمال الشركة بالفعل، والتى من جانبها حاولت أن تدافع عن نفسها عبر حملة إعلانية كبيرة فى أكثر من صحيفة عامة وخاصة، بعدها هدأت الأمور فى المجال العام، ولكنها لم تهدأ لدى لجنة التحفظ ولجان جمع المعلومات، وما إن توافرت القرائن التى أسست الاطمئنان لدى أعضاء اللجنة كان قرارها بالتحفظ على أموال الرجل.
قصة قرار التحفظ تلخص معنى الالتزام الحرفى بالقانون وعدم التمييز فى تطبيقه، سواء كان الأمر يتعلق بشخصية رياضية مشهورة أو رجل أعمال كبير، الأمر الذى يجسد مبدأ العدالة فعلاً وليس فقط قولاً. هذا الأمر يختلف جملة وتفصيلاً عن قرار الداخلية حبس الإعلامى الشهير، فأولاً كانت هناك ثلاثة أحكام نهائية واجبة النفاذ منذ عام ونصف على الأقل لصالح الزوجة، وهى فى الأصل مواطنة لها الحق فى أن تحصل على حقوقها التى أقرها القانون وأيدتها المحاكم المختصة، ولكن الداخلية أغمضت أعينها لغرض فى نفس يعقوب، وربما حدث نوع من التهيب لدى هذه المؤسسة الرئيسية فى تنفيذ القانون من شهرة الرجل وقدرته على التأثير على قطاع من الرأى العام الذى يرى فيه بطلاً. ولكن المؤسسة ذاتها وبدون سابق إنذار قررت تطبيق القانون وأحكامه. وهنا يسأل الرأى العام لماذا تم الضرب بعرض الحائط بحقوق الزوجة والطفل من قبل، والآن ظهرت النخوة فى تنفيذ هذه الحقوق؟ أليس الأمر مقترناً بسبب لا يعرفه إلا عدد محدود من الناس؟ وما هذا السبب الخفى؟ وهل فعلاً أن الداخلية باتت الآن أكثر إصراراً على تنفيذ القانون بغض النظر عن الأشخاص حتى ولو كانوا أبطالاً؟
لست من الذين يرون أن هناك فئات معينة فى المجتمع لها الحق فى الالتفاف على القانون أو أن تحصل على ميزات مثل التغاضى عن تنفيذ أحكام قضائية بحقها نتيجة لشهرة أو نفوذ. وإذا كنا نتحدث عن دولة قانون تبغى العدل، فما كان يجب على الداخلية أن تضع نفسها فى هذا الموقف السخيف وبما يثير لدى الرأى العام هواجس التمييز البغيضة فى سنوات مبارك، والتى أدت فى النهاية إلى انتفاضة الشعب على الوزارة والنظام كله. وفى المقابل ما كان للإعلامى الشهير ومحاميه أن يحول قضية شخصية إلى قضية سياسية يستدر بها عطف محبيه. الاثنان مخطئان، وللأسف الدولة والمجتمع يدفعان الثمن.